الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا يفعل الله شيئا إلا لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها

السؤال

يثير بعض الملاحدة بعض الشبهات ومنها مسألة وقوع المصائب على الحيونات وهي غير مكلفة، وعدم تعويضها في الآخرة, ولا يخفى على المسلم بأن الله لا يظلم خلقه شيئاً والظلم هو وضع الشىء في غير موضعه، ومن ذلك عقاب من لم يستحق العقاب كتعذيب المطيع لله وإدخاله النار، ولا يدخل في ذلك ابتلاء الصالحين في الحياة الدنيا فهذا في الحقيقة هو من إحسان الله لهم باعتبار العاقبة الحسنة من وراء امتحانهم مع ما يدخره الله لهم من الأجور يوم القيامة, وقد قرر أهل العلم بأن ما يصيب الأطفال من بلاء وضراء في الدنيا هو من باب امتحان آبائهم ومن باب التفضل على هؤلاء الأطفال في الآخرة بتعويضهم في الآخرة, ولا يخفى كذلك أن ما يصيب الحيوانات من مصائب كأمراض وهلاك ونحو ذلك هو من باب امتحان أصحاب هذه البهائم, ولكن يبقى السؤال المشكل وهو ماذا فعلت هذه البهائم حتى يصيبها ما أصابها وخاصة أنها في الآخرة لن تعوض بشىء بل ستكون تراباً ولن تدخل الجنة؟ ولو قلتم إن الله له أن يفعل ما يشاء بخلقه وأن الله يستحيل في حقه أن يكون ظالماً ولو أراد لأن الظالم هو الذي يتصرف في ملك غيره، وليس الظلم عند الله ممكناً وليس الظلم كذلك هو وضع الشيء في غير موضعه كما قاله ابن رجب؟ فهل هذا يعني أن من قال (بأن الله لو عذب خلقه الصالحين وأدخلهم النار وعاقب المطيع وعذبه لكان ظالماً سبحانه) بأن قوله خطأ وإن كان مذهب ابن تيمية وابن القيم وغيرهم؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنود أن ننبه أولا إلى أنه لا ينبغي الاسترسال مع الملاحدة في النقاش حول الحكمة من أفعال الله تعالى، فبعض الأمور قد تخفى حكمتها تماما فلا يدركها المسلم فيقف عاجزا أمام الملحد، فيضطرب المسلم في دينه بسبب ذلك، ويغتر الملحد بكفره فتكون الفتنة. إذن فالذي ينبغي هو جره إلى الحوار حول أصل قضية الإيمان بالله ولفت نظره إلى آياته في هذا الكون ودقة نظامه وحسن ترتيبه، فإذا آمن بالله وكماله وجلاله سهل عليه أن يتفهم كل شيء يتعلق بأفعاله.

ويجب على المسلم أن يعلم أن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :وعلى هذا فكل ما فعله علمْنا أن له فيه حكمة، وهذا يكفينا من حيث الجملة، وإن لم نعرف التفصيل، وعدم علْمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته، وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا وأما كنه ـ أي حقيقة ـ ذاته فغير معلومة لنا : فلا نكذب بما علمناه ـ أي من كماله ـ ما لم نعلمه ـ أي من تفاصيل هذا الكمال ـ ، وكذلك نحن نعلم أنه حكيم فيما يفعله ويأمر به ، وعدم علْمنا بالحكمة فى بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته، فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها، ونحن نعلم أن مَن علم حذق أهل الحساب والطب والنحو ولم يكن متصفاً بصفاتهم التى استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب والطب والنحو : لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه لعدم علمه بتوجيهه ، والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته فى خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو ، فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلاً وتكلفاً للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح فى الحساب والطب والنحو بغير علمٍ بشىءٍ من ذلك. اهـ هذا الكلام الجميل من " مجموع الفتاوى ".

وينبغي أن يعلم أن قياس أفعال الله تعالى على أفعال البشر من أفسد القياس وأشنعه، فلا يمكن للإنسان أن يحيط علما بحكمة الله تعالى في خلقه وأمره، وقضائه وقدره، مهما أوتي من الفطنة والذكاء والعلم والفهم.

قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): مذهب أهل السنة والجماعة أن أفعال الله تعالى لا تقاس بأفعال عباده، ولا تدخل تحت شرائع عقولهم القاصرة، بل أفعاله لا تشبه أفعال خلقه، ولا صفاته صفاتهم، ولا ذاته ذواتهم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. اهـ.

وقال الكرمي في (رفع الشبهة والغرر) ناصا على مسألة ألم الحيوانات: تعليل أفعال الله كلها الجارية في المكلفين وغيرهم مما لا سبيل إلى معرفته والوقوف على سر حقيقته، وفي مثل هذا المقام تخبطت الأفهام، فقالت طائفة: إن البهائم والأطفال لا تتألم ولا تحس بالألم. وهذا جحد للضرورة ومكابرة في المحسوس. وقالت طائفة: إن ذلك لا يصدر إلا من فاعل الشر. وقالت طائفة من غلاة الرافضة بالتزام التناسخ وقالوا: إنما حسن ذلك لاستحقاقهم ذلك بجرائم سابقة اقترفوها في غير هذه القوالب فنقلت أرواحهم إلى هذه القوالب عقوبة لهم. وموجب هذا التخليط تعلق أمل هؤلاء بمعرفة حقيقة أسرار أفعال الله تعالى في المكلفين وغيرهم، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته، ويكفي معرفة الحكمة والتعليل في ثواب وعقاب المكلفين وهو المراد، وإلا فمن المحال معرفة أسرار أفعاله كلها لأن الرب تعالى لا يمثل بالخلق لا في ذاته ولا صفاته ولا في أفعاله، بل له المثل الأعلى، فما ثبت لغيره من الكمال فهو أحق به، وما تنزه عنه من النقص فهو أحق بتنزيهه عنه سبحانه، وليس كل ما كان ظلما من العبد يكون ظلما من الرب، ولا ما كان قبيحا من العبد يكون قبيحا من الرب؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن القدرية شبهت في الأفعال فقاسوا أفعال الله على أفعال خلقه وهو أفسد القياس. اهـ.

وقد ترتب على تضييع هذا الأصل اختلاف شديد بين المتكلمين في هذه المسألة محل السؤال، فأطالوا فيها النفس وحاروا وتماروا.

قال الرازي عند تفسير قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأنْعَامِ} قال: المسألة الثانية: قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله. قالوا: والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلا أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح. واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقاً كثيرة بسبب هذه الشبهة، فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها. وهذا كالمكابرة في الضروريات. وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحقاً بعوض، وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلماً، قالوا: والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح. وقال أصحابنا: إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه. والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول. اهـ.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذه المذاهب تفصيلا في (طريق الهجرتين) في فصل: (بيان ما للناس في دخول الشر في القضاء الإلهي من الطرق والأصول) فراجعه إن شئت (ص238: ص 258). وكذلك تعرض لذلك في (شفاء العليل) في الباب الحادي والعشرين: (تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي) ولتمام البحث يرجى الاطلاع على فصل (الأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية) من كتاب (مفتاح دار السعادة). ولمزيد الفائدة يمكن مراجعة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 98326 - 63258 - 29341.
وأما القول بأن الله لو عذب خلقه الصالحين وأدخلهم النار وعاقب المطيع وعذبه لكان ظالماً سبحانه. فكلام باطل، بل الأمر كما جاء في الحديث النبوي الصحيح الذي رواه أحمد و ابن ماجه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم.

قال ابن تيمية معلقا على هذا الحديث:والتحقيق أنه إذا قدر أن الله فعل ذلك فلا يفعله إلا بحق لا يفعله وهو ظالم، لكن إذا لم يفعله فقد يكون ظلما يتعالى الله عنه.اهـ.
وقال ابن القيم: الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده وجاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه وصدقته على عبده إن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها وحببها إليه وزينها في قلبه وكره إليه أضداها، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ولا هي على قدره بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه، فلو طالبه بحقه لبقي عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. هذا هو كلام ابن تيمية وابن القيم فلا ندري من أين نسبة هذا الكلام المذكور بالسؤال إليهما.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني