الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجذور الفكرية العقدية لموقف البابا من الإسلام

الجذور الفكرية العقدية لموقف البابا من الإسلام

تقول الكنيسة الكاثوليكية في روما منذ بضعة قرون بعصمة البابا على رأسها، ولهذا لا تصدر عنه وثيقة مكتوبة، أو كلمة مرتجلة، أو تصريح بموقف، دون جمع معلومات ودراسة ومناقشة وصياغة ومراجعة، فلا يُعلن شيء إلاّ بعد ضمان - بحدود قدرة البشر وإن قيل ما قيل عن عصمتهم- ألاّ تضطر الكنيسة لاحقا إلى الرجوع عنه، ناهيك عن الاعتذار بسببه، وليس مجهولا أنّ بعض أخطاء الكنيسة التاريخية الكبرى لم تجد طريقها إلى اعتذار رسمي، إلاّ بعد مرور مئات السنين عليه. ولهذا لا ينبغي أن يتّجه الحديث عن الإساءة البابوية إلى الإسلام نحو محاولة تفسيرها وتأويلها بأنّها غير مقصودة، كلمة كلمة، وفي هذا التوقيت بالذات، كما لا تصحّ المبالغة في تحميلها أكثر ممّا تقول به في نطاق سياق المحاضرة التي تضمّنتها، وفي الحالتين لا يفيد الجدل حول اعتذار شكلي، فعلى افتراض صدوره لن يعني تبدّل أسس موقف بابا الفاتيكان.

بنديكت السادس عشر والإسلام
صدرت عن البابا الكاثوليكي كلمةُ مجاملةٍ عابرة في أثناء لقاء مع قيادات دينية عالمية، عقب تنصيبه على رأس الفاتيكان بأيام، فأعرب فيها عن امتنانه لوجود مَن يمثّل الإسلام بينهم، وتقديره للحوار بين المسلمين والمسيحيين.

باستثناء ذلك مرّت الشهور التسعة الأولى على وجود يوزيف كاتسينجر في منصب البابا الكاثوليكي باسم بنديكت السادس عشر دون أن يصدر عنه ما يوضّح مواقفه من القضايا الأساسية التي يواجهها مع كنيسته ودولة الفاتيكان، بما في ذلك مسألة الحوار عموما، ومع الإسلام تخصيصا.

ومعظم ما يُنشر عن توجّهاته يأتي نتيجة دراسات قامت بها جهات أخرى، تستقرئ سياساته البابوية في الفاتيكان من أفكاره ومواقفه قبل حمل هذه المسئولية، وهنا ينبغي التمييز بين:

1- موقف رسمي يصدر عن مسؤول في الكنيسة الكاثوليكية، فلا يخرج به عادة عن الموقف المقرّر من جانبها، بغضّ النظر عن موقفه الشخصي واحتمال تناقضه مع الموقف الرسمي أو تمايزه عنه قليلا أو كثيرا.

2- موقف ذاتي شخصي، يظهر عادة في أثناء المناقشات أو في مناسبات معينة، فيعبّر عن توجّه قائم بذاته عند صاحبه، يمكن أن يؤثّر على صناعة القرار الكنسي على حسب موقع المسئولية لصاحبه، وهو ما يعني ازدياد تأثيره على صناعة القرار عبر الوصول إلى كرسي البابوية.

من أبرز الأمثلة على الموقف الرسمي على صعيد التعامل مع الإسلام، صدر عن راتسينجر وهو يشغل المرتبة الثانية في الفاتيكان؛ إذ صرّح بأنّ الإسلام كان لفترة زمنية طويلة متفوّقا على المسيحية في الميادين العلمية والفنية، وقد أعرب بذلك عن ردّ دولة الفاتيكان وكنيستها على مقولة رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو بيرلوسكوني، بشأن تفوّق الحضارة الغربية، والتي أثارت ضجّة في حينه، وصدرت في حمئة الحملة التي أطلقها الرئيس الأمريكي جورج بوش ضدّ الإسلام والمسلمين، عقب تفجيرات نيويورك وواشنطون، إلى درجة قوله في وصفها إنّها "حرب صليبية".

ومن الأمثلة الأخرى قول راتسينجر في مقابلة صحفية: "إنّ الإسلام كثير التنوّع، ولا يمكن حصره فيما بين الإرهاب أو الاعتدال".

بغضّ النظر عن الاقتناع الذاتي كانت مواقف راتسينجر العلنية آنذاك تمثّل الاتجاه الذي قرّرته الكنيسة الكاثوليكية لنفسها في عهد يوحنا بولس الثاني، وهو ما تضمّن معارضة الحملات العسكرية الأمريكية ونشر الهيمنة الأمريكية من خلالها عالميا، بحجّة "الحرب ضدّ الإرهاب"، وفي تلك الفترة بالذات، أي في السنوات الثلاث الأولى عقب تفجيرات نيويورك وواشنطون، تبنّت الكنيسة في روما الدعوة إلى حوار الأديان، الإبراهيمية على وجه التخصيص، بعد أن بقي التعامل مع "الإسلام" ضمن إطار حوار الأديان عموما.

أمّا الموقف الشخصي الذاتي، المعبّر بالتالي عن رؤية ذاتية واقتناع، فليس سهلا العثور عليه في متابعة حياة مسؤول كنسي، وقد نجد الكثير لراتسينجر/ بنديكت السادس عشر بصدد قضايا كنسية كانت مطروحة للبحث، ولكن ما يتعلّق بالإسلام وكيفية التعامل معه، أو استيعاب الإسلام والموقف منه، لا نجد إلا القليل النادر، ومن أهمّه ما يتحدّث عنه دانييل بايبس في "نيويورك صن" يوم 17/1/2006م، نقلا عن القسيس يوزيف ديسيو، الذي شارك مع البابا -الجديد آنذاك نسبيا- في ندوة كنسية حول الإسلام في أيلول/ سبتمبر 2005م ويقول إنّه لم يشهده في ندوات مشابهة (تعقد بإدارته منذ 1977م)، يدخل في النقاش ولكن بصورة هادئة وبعد الاستماع إلى الآخرين، أمّا في تلك الندوة فقد اعترض اعتراضا سريعا ومباشرا على فكرة "قابلية الإسلام للتطوّر" التي طُرحت في الندوة نقلا عن وجهة نظر أحد علماء باكستان المسلمين؛ إذ قال بنديكت السادس عشر معترضا من بداية النقاش، ما مؤدّاه "إنّ كلمة الله عند المسلمين كلمة أبدية كما هي، غير قابلة للتلاؤم مع المستجدّات أو التأويل، وهذا فارق أساسي مع المسيحية واليهودية، فكلمة الله عندهما أوكلت إلى البشر، وأوكل إليهم أن تتعدّل لتتلاءم مع المستجدّات".

الإساءة إلى الإسلام
أما الموقف الشخصي الذاتي المنسوب إلى البابا الكاثوليكي في روما بنديكت السادس عشر، فقد صدر قبل أشهر في إطار "ندوة كنسية داخلية"، أي محرّرا من وضع ردود الفعل الإعلامية والشعبية والسياسية في الحسبان، هو الموقف الأقرب إلى معرفة نظرته إلى الإسلام، فعندما يقول فيه إنّه "غير قابل للتطوّر"، يمكن أن نجد ذلك الفهم المبتسر والخاطئ للإسلام منسجما تماما مع الخطّ العام لمحور ما قال به "أستاذا محاضرا" في جامعة ريجنسبورج، التي عرفته متخصّصا بدرجة الأستاذية؛ أي إنّ المفترض به أنّه لا يلقي الكلام على عواهنه أو جزافا.

من هنا لا يصحّ التساؤل: ماذا تقصد الكلمات من حيث معناها، فهي واضحة، تعبّر عن رؤية مرفوضة إسلاميا.
ولا يعني ذلك أن تقترن بالرفض المطلق لما حاول المتحدث باسم الكنيسة الكاثوليكية أن يعتذر به اعتذارا غير مباشر.. عندما قال مثلا: إنّ البابا الكاثوليكي لم يقصد الإساءة، فالواقع أنّ المشكلة في البداية لا تتمثّل في "قصده" بل في مضمون كلماته.

- أو قال أيضا إنّ فهم الكلمات يجب أن يكون باعتبارها وردت في"محاضرة" على مستوى علمي، وهذا صحيح، ولهذا لا يمكن اعتبارها غير "مدروسة".

إنّ موضوع المحاضرة هو الموضوع المفضّل قديما وحديثا لدى بنديكت السادس عشر، أي التوفيق بين "العلم والدين" أو "العقل والعقيدة"، وتلك "مشكلة كنسية" قديمة جديدة، ومن هنا كان حديثه عن الإسلام في المحاضرة -على أفضل التفسيرات- من باب "المثال"، الذي أراد ذكره للقول إنّ التناقض (في زعم القائل) بين الدين والعقل يمنع الحوار مع الآخرين.

واستشهاده بمقولة قيصر بيزنطي من حقبة القرون الوسطى ومقدّمات فتح القسطنطينية آنذاك له مغزاه، ولا يعني عدمَ تبنّيه هو لمضمون الاستشهاد، فلا يفيد الجدال الذي يثيره الناقدون لردود الفعل الإسلامية بهذا الصدد، بدعوى أنّ بنديكت السادس عشر لم يستخدم كلماته الذاتية عن الإسلام، فاختيار الاستشهاد هو المهم، وكان باستطاعة البابا الكاثوليكي ذي الأصل الألماني، المتحدّث بالألمانية، لجمهور ألماني، على الأرض الألمانية.. كان باستطاعته لو أراد شيئا آخر سوى "مضمون" الاستشهاد، أن يأتي مثلا ببعض ما قال عن الإسلام القيصر الألماني غليوم الثاني قبل أقلّ من قرن واحد، بدلا من القيصر البيزنطي إيمانويل الثاني قبل ستة قرون، أو مثل آخر ما قال به جوتة، أشهر شاعر وأديب ألماني، أو سواهما -وسواهما كثير- من مشاهير الفلاسفة الألمان وغير الألمان في حقبة "التنوير" الأوروبية.

لا ينبغي أن يأخذ الحديث عن الإساءة البابوية إلى الإسلام منحى التساؤل: هل وقعت أم لم تقع"؟. وهل كانت مقصودة أم غير مقصودة؟.. بل ينبغي:

1- الاستيعاب الهادئ والموضوعي لما قال به البابا الكاثوليكي الرومي بنديكت السادس عشر، كما هو، بنصه ومعناه الظاهر للعيان، وبموازين مجمل خلفيّاته الفكرية والعقدية والسياسية.

2- تثبيت الموقف الإسلامي المطلوب على المدى البعيد، وفق موازين المصلحة الإسلامية، والتعبير عنه وفق ما تقتضيه المصلحة الإسلامية، بما يتجاوز حدود الردود الآنية المتفاعلة مباشرة مع الحدث، هذا ما يحتاج إلى حديث آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نبيل شبيب

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة