الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أحوال الرواة - الجرح والتعديل

أحوال الرواة - الجرح والتعديل

أحوال الرواة - الجرح والتعديل

يُقصد بالجرح والتعديل: القواعد التي تنبني عليها معرفة الرواة الذين تقبل رواياتهم أو ترد، ومراتبهم في ذلك، ومن الناحية التطبيقية: إنزال كل راوٍ منزلته التي يستحقها من القبول وعدمه.

وقد نشأ علم الجرح والتعديل عندما كثُرت التحديات التي تواجه المحدثين إزاء السيل الدافق من الأسانيد والمرويات، فتحتَّم عليهم أن يقفوا وقفة يراجعوا فيها البناء الذي قام على مبدأ الإسناد.

ولم تكن كثرة الأسانيد والمرويات لمجردها هي الدافع لتلك الوقفة والمراجعة، بل إن الفتن التي ظهرت في المجتمع المسلم والتقلبات المختلفة التي واجهها المسلمون بسبب الفتوحات الكبرى وما لحقها من تجاور أو تمازج للحضارات المغلوبة، وما أفرزه هذا التجاور أو التمازج من تأثيرات سلبية أو إيجابية.. كل ذلك أدى لتلك المراجعة.

لكن أعظم حدث استدعى حفيظة المحدثين ونقلة الشرع.. تلك الفتن السياسية التي تَخفّى وراءها فئات من أعداء الدين وأصحاب الأهواء الذين ضعف إيمانهم أو انعدم، واختل ولاؤهم للدين أو انصرم، واستحلت تلك الفئات لنفسها أن تتخذ من الإسناد مطيّة لانتحال نصوص نبوية تؤيد مذهبهم واتجاههم.

فلما أحس المحدثون برواج تلك الآثار -وخاصة بين الطوائف السياسية المتنازعة- ابتدءوا في أخذ الحيطة ورسم السبل لدرء هذه المحاولة الجديدة في تحريف مصادر التلقي عند المسلمين.

أصل الجرح والتعديل

أصل الجرح والتعديل إنما هو التثبت، الذي هو خلق إسلامي حض عليه الدين وندب إليه المؤمنون، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات:6)، وقد جاءت آيات عديدة في التحذير من الخرص والظن والقول بغير علم، قال الله تعالى: {قتل الخراصون} (الذاريات: 10)، وقال تعالى: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} (النجم:28)، وقال تعالى: {ولا تقْفُ ما ليس لك به علم} (الإسراء:36).

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع الظن فقال: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) رواه البخاري.

وفي عصر أبي بكر بن الصديق رضي الله عنه: "جاءت امرأة -جدة- تسأله الميراث، فسأل الصحابة فأجابه المغيرة بأنها ترث السدس بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يأتيه بشاهد، فشهد معه محمد بن مسلمة" رواه أبو داود والترمذي، ولذلك قال الإمام الذهبي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "هو أول من احتاط في قبول الأخبار"، وقال أيضا: "وإليه المنتهى في التحري في القول والقبول".

وفعل ذلك عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما "حين ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع)، فقال له عمر: والله لتقيمن عليه البينة، فجاء حلقة الصحابة فشهدوا معه" متفق عليه.

ولم يكن أبو بكر ولا عمر يتهمان الصحابة بالتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يردعانهم عن التبليغ عنه، بل فعلا ذلك حتى لا يجترئ من بعدهم أو غيرهم ممن ليس محله في الإسلام كمحلهم.

وقد ذكر الإمام الحاكم أن أبا بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين جرّحوا وعدّلوا وبحثوا عن صحة الروايات وسقيمها، ثم استن بسنتهم واهتدى بهديهم في هذا جماعات من التابعين، ثم من بعدهم على اختلاف مدارسهم ومشاربهم وبلدانهم.

ثم أتت بعد ذلك مرحلة احتاج فيها المحدثون لتأصيل هذا المنهج في الجرح والتعديل وبيان أصالته واستناده إلى أدلة الشرع واحتياج المسلمين إليه من جهة صيانة نصوص الشريعة عن غائلة الانتحال والكذب والخطأ من الرواة.

يقول الإمام الترمذي: "وقد عاب بعض من لا يفهم على أصحاب الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال، منهم الحسن البصري وطاووس قد تكلما في معبد الجهني، وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب، وتكلم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي في الحارث الأعور، وهكذا روي عن أيوب السختياني وعبد الله بن عوف وسليمان التيمي وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أهل العلم أنهم تكلموا في الرجال وضَعّفوا، فما حملهم على ذلك عندنا والله أعلم إلا النصيحة للمسلمين، لا نظن أنهم أرادوا الطعن على الناس أو الغيبة، إنما أرادوا عندنا أن يبينوا ضعف هؤلاء لكي يُعرفوا، لأن بعضهم من الذين ضُعّفوا كان صاحب بدعة، وبعضهم كان متّهما في الحديث، وبعضهم كانوا أصحاب غفلة وكثرة خطأ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم شفقة على الدين وتثبّتا، لأن الشهادة في الدين أحق أن يُتثبت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال".

شروط وآداب

أدرك المحدثون جلالة ما هم فيه من تعرض لأحوال الرواة، واعترفوا بأن مجال الجرح والتعديل مخاطرة لا ينجو من تبعاتها إلا من استعمل الديانة وركب متن التقوى والأمانة، فاشترطوا في الجارح والمعدل الخصال التي تجعل حكمه منصفا مبينا حال الراوي، نذكر منها:

1- العلم والتقوى والتحري: يقول الحافظ ابن حجر: "وينبغي أن لا يُقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ، أي مستحضر ذي يقظة تحمله على التحري والضبط فيما يصدر عنه".

2- العلم بأسباب الجرح والتعديل: يقول الحافظ ابن حجر: "وتقبل التزكية من عارف بأسبابها، لا من غير عارف؛ لئلا يزكي بمجرد ما يظهر له ابتداء من غير ممارسة واختبار".

3- معرفة اصطلاح أهل الجرح والتعديل، ومن بابٍ أولى تصاريف كلام العرب، لئلا يخطئ في استعمال الألفاظ الموهمة.

وقد تقبل تزكية وتجريح كل عدلٍ، ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا، متى استوفى الشروط الأخرى.

كما اشترطوا آدابا يتأكد الالتزام بها ديانة، منها:

- عدم التجريح بما فوق الحاجة: يقول الإمام السخاوي: "لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد".

- لا يجوز الاكتفاء بإيراد الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل: قال الإمام الذهبي عن كتاب الضعفاء لابن الجوزي: "وهذا من عيوب كتابه، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق".

- لا يجرح من لا يحتاج إلى جرحه: مثل العلماء الذي لا يحتاج إلى روايتهم، يقول ابن المرابط: "قد دونت الأخبار، وما بقي للتجريح فائدة"، يعني في حق رجال الأسانيد المتأخرة.

وقد اشتهر عن الإمام ابن دقيق العيد - وهو من كبار علماء النقد - قوله: "أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة