الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يسقط القصاص إذا عفت زوجة القتيل وهل تستأثر بما صولحت عليه

السؤال

جزاكم الله الخير من أوسع أبوابه على هذا الموقع الطيب وجعله في ميزان حسناتكم، وأدخلكم أنتم وذريتكم ومن تحبون الجنة بإذن الله تعالى.
أما بعد/ راجيا من الله ثم من حضرتكم الإجابة على سؤالي في أسرع وقت ممكن نظرا للضرورة، وأرجو من حضرتكم في حالة عدم التمكن من الإجابة بأن تبلغوني على البريد الالكتروني بذلك. وأحسن الله خاتمتكم. المقدمة : لقد قام أحد الأشخاص بقتل أخي عمدا من الخلف غدرا أمام المنزل بعد صلاة المغرب منذ حوالي ثلاث سنوات، وتم الحكم على القاتل بالقصاص منذ حوالي ثلاثة أشهر، وقد تم إبلاغ والدي لأجل حضور موعد القصاص وكان ذلك يوم الجمعة الساعة التاسعة 10|7|1430صباحا، وعند ما حضر فوجئ بأنه لا يوجد قصاص، وأبلغه رجال الشرطة بأن القصاص قد أجل لمدة شهر بناءا على برقية أتتهم من خادم الحرمين الشريفين وذلك لإعطاء فترة عسى أن يحدث فيها صلح وليس على ذلك أي اعتراض ووكلنا أمرنا لله لأنه حين الأجل لايستقدمون ساعة ولايستأخرون. ولكن في أثناء هذه الفترة قام أهل القاتل بانتهاز هذه الفرصة والذهاب بالخفية إلى أرملة أخي المقتول ودفعوا لها خمسة ملايين ريال مقابل التنازل عن حقها بالقصاص وكان ذلك بالخفية والتلاعب دون علم أي أحد من أهل المقتول، وتنازلت عن القصاص بورقة خطية تنص على: أتنازل عن حقي بالقصاص مقابل خمسة ملايين ريال سعودي ويعد هذا المبلغ خاص بي فقط ولا يحق لأحد التصرف به غيري. وأنا أتساءل هل أعطوا هذه الفترة لأجل الصلح بما يحبه الله ويرضاه أم التلاعب في حقوق الآخرين؟ وهل نسوا قول الله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما.؟
السؤال: هل يحق للزوجة التنازل في هذه الحالة عن القصاص بالخفية والتلاعب مع أهل القاتل مقابل الإغراء بالمال ودون إبلاغ أحد من أهل المقتول، علما بأننا جميعا مصرون على القصاص: والدي وأمي وإخوتي جميعهم مصرون أيضا على القصاص؟ علما بأن أرملة أخي المقتول- رحمه الله ورحم الله موتى المسلمون جميعا- ليس لديها أولاد، وكذلك لدى والدي وكالة خاصة من أرملة أخي بتوكيله بمطالبة القصاص وتنفيذه بعد الحكم، ومن أمي ومن كافة إخوتي. هل الزوجة في هذه الحالة (أرملة المقتول) وريثة بالدم؟ وهل يحق لها التلاعب مع أهل القاتل في هذه المصيبة والتنازل عن القصاص؟ وإن سقط القصاص ماذا يحق لأهل المقتول؟ أفيدونا بعلمكم جزاكم الله كل خير وأحسن ختامكم وأدخلكم الجنة بإذن الله؟ وأنا أريد شرع الله لإقناع أهلي وإخوتي لتجنب الفتن والمصائب نظرا لخطورة الموضوع؟ملاحظة : لقد قمت بمراجعة عدة شيوخ لأكون مصدر خير فالبعض أخبرني بأنه لايحق للزوجة في هذه الحالة بالتلاعب بالخفية وهي تعد وريثة بالمال وليس بالدم. وقام البعض الآخر بإخباري بأنه يسقط القصاص وأجركم على الله ويعد هذا نصيبها وهو الربع ويتم إعطاء أهل المقتول المتبقي. أفيدونا بعلمكم وإشارتكم علينا جزاكم الله خيرا؟ وقد قمت بإرسال هذا الموضوع منذ حوالي أسبوع ولم يأتني أي رد.والله ولي التوقيق.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا خلاف بين الفقهاء في أن القود حق أولياء الدم، ولكنهم اختلفوا في ذلك الحق هل يثبت لهم ابتداء أم بطريق الإرث عن المجني عليه ؟ ومن هم الذين يستحقونه منهم ؟ وذلك على ثلاثة أقوال :

أحدها: للحنابلة والشافعية في الأصح وأبي يوسف ومحمد، وهو أن حق القصاص يثبت للمجني عليه أولا بسبب الجناية عليه، ثم ينتقل إلى ورثته جميعهم، الرجال والنساء والكبار والصغار، من ذوي الأنساب والأسباب كسائر أمواله وأملاكه.

والثاني: للمالكية والشافعية في قول وأحمد في رواية عنه اختارها ابن تيمية، وهو أن القصاص حق للمجني عليه ابتداء ثم ينتقل إلى العصبات الذكور من ورثته خاصة، لأنه ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح.

والثالث: لأبي حنيفة، وهو أن القصاص ليس موروثا عن المجني عليه، بل هو ثابت ابتداء للورثة، لأن الغرض منه التشفي ودرك الثأر. انتهى من الموسوعة الفقهية.

وبذلك يعلم السائل الكريم أن هذه المسألة فيها خلاف قديم بين أهل العلم، فلا غرابة أن يختلف فيها المفتون في هذا العصر، ولعل الراجح هو القول الأول.

قَال ابن قدامة: القصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب والرجال والنساء والصغار والكبار، فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يبق لأحد إليه سبيل، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم عطاء والنخعي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي، وروي معنى ذلك عن عمر وطاووس والشعبي... ولنا عموم قوله عليه السلام: فأهله بين خيرتين. وهذا عام في جميع أهله، والمرأة من أهله... وروى زيد بن وهب أن عمر أتى برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي. فقال عمر: الله أكبر، عتق القتيل. رواه أبو داود. والدليل على أن القصاص لجميع الورثة ما ذكرناه في مسألة القصاص بين الصغير والكبير، ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبة، فإذا عفا بعضهم صح عفوه كعفوه عن سائر حقوقه، وزوال الزوجية لا يمنع استحقاق القصاص كما لم يمنع استحقاق الدية وسائر حقوقه الموروثة، ومتى ثبت أنه حق مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط من كان من أهل الإسقاط منهم لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه، فإذا سقط سقط جميعه لأنه مما لا يتبعض... ومتى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقا أو إلى الدية، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، ولا أعلم لهما مخالفا ممن قال بسقوط القصاص. انتهى.

وعلى ذلك فللزوجة الحق في أن ترجع فتعفو عن حقها في القصاص، حتى ولو كانت وكلت والد زوجها قبل ذلك في استيفاء ذلك الحق، وعندئذ يسقط حق بقية أولياء الدم في القصاص، على الراجح في قول أكثر أهل العلم، وينتقل حقهم إلى المال بقبول نصيبهم من الدية، فعن وائل بن حجر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النسعة. قال: فدعا ولي المقتول فقال: أتعفو؟ قال: لا. قال: أفتأخذ الدية؟ قال: لا. قال: أفتقتل؟ قال: نعم. قال: اذهب به. فلما ولى قال: أتعفو؟ قال: لا. قال: أفتأخذ الدية؟ قال: لا. قال: أفتقتل؟ قال: نعم. قال: اذهب به. فلما كان في الرابعة قال: أما إنك إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه. قال: فعفا عنه. رواه مسلم وأبو داود واللفظ له.

وجاء في الموسوعة الفقهية: إذا عفا بعض الأولياء عن القود دون البعض سقط القصاص عن القاتل ؛ لأنه سقط نصيب العافي بالعفو، فيسقط نصيب الآخر في القود ضرورة ؛ لأنه لا يتجزأ فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض. وفي هذه الحالة يبقى للآخرين نصيبهم من الدية؛ وذلك باتفاق الفقهاء لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ... ويستوي في هذه الحالة عفو أحد الأولياء مجانا أو إلى الدية. اهـ.

ثم نذكر السائل الكريم وعائلته بأن العفو أقرب للتقوى، وأنه كفارة لصاحبه، كما قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. {المائدة :45}، وقال أنس بن مالك: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو. رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني.

أما بالنسبة لما أخذته الزوجة نظير عفوها عن حقها في القصاص فلا علاقة له بنصيبها من تركة زوجها ـ وهو هنا الربع ـ فيجب أن تأخذ نصيبها من تركة زوجها كاملا بغض النظر عن ما أخذته نظير عفوها عن حقها في القصاص. وهذا الذي أخذته الزوجة هل تختص به، أم يشاركها فيه بقية أولياء الدم بحسب نصيبهم من الدية، أم يخيرون بين هذين؟ خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يجعل ذلك خاصا بمن صالح على حقه من دم العمد، وهذا مذهب الحنفية.

قال السرخسي في المبسوط: رجل قتل عمدا وله ابنان فصالح أحدهما من حصته على مائة درهم فهو جائز, ولا شركة لأخيه فيها. انتهى.

وعلى ذلك فالخمسة ملايين ريال من حق المرأة وحدها لا يشاركها فيها أحد.

وفي مختصر خليل المالكي: إن صالح أحد وليين فللآخر الدخول معه وسقط القتل.

قال الحطاب في مواهب الجليل: يعني أن من قتل عمدا وله وليان فصالح أحدهما عن حصته بالدية كلها أو أكثر منها، فللولي الآخر أن يدخل معه فيما صالح به، بأن يأخذ نصيبه من القاتل على حساب دية العمد ويضمه إلى ما صالح به صاحبه ويقتسمون الجميع. انتهى.

وهذا هو الذي نراه راجحا ومحققا للعدل بين أولياء الدم، وموافقا لما سبق أن رجحناه من أن حق القصاص يثبت للمجني عليه أولا بسبب الجناية عليه ثم ينتقل إلى ورثته جميعهم، فكما يجتمع الجميع في تركة المتوفى وفي ديته، كذلك ينبغي أن يجتمعوا في الصلح عن القصاص.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني