الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحسد.. محاذيره .. مآلاته.. وعلاجه

السؤال

أنا مضطرة للعيش مع إنسانة لا أحبها وأكرهها لدرجة أنني أريد قتلها، ولا أستطيع النظر في عينيها ولا التكلم معها، وعندما أسمع صوتها تصيبني حالة من الجنون، ومن الممكن أنني أغار منها، فماذا أفعل لأتخلص من حقدي أو لأتجاهلها ولا أفكر فيها وأفكر في مستقبلي؟ وطوال الوقت أبكي لأنها تعيش معي وأفرح لغيابها؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فهذا البغض إن لم يكن في الله تعالى فإنه يضر صاحبه، وإذا كان سببه الحقد أو الحسد أو الغيرة المذمومة كان وبالا عليه، ينغص عليه عيشه، وقد يفسد عليه دينه، ويحمله على البغي وتعدي حدود الله تعالى، والذي يبلغ ذروته بما قالته السائلة: أكرهها لدرجة أنني أريد قتلها!!! والواجب عليك أن تجاهدي نفسك في إزالة آثار هذا الكره المشين، وذلك بالنظر إلى قضاء الله تعالى وقدره، وحكمته في خلقه وأمره، ثم باستحضار حقيقة الدنيا وفنائها والزهد فيها، وتذكر قدر الآخرة وبقائها والرغبة فيها، ثم بالتفكر في أضرار هذا الشعور البغيض وآثاره وما يجلبه من الحقد والغل والحسد، قال القاسمي في تهذيب موعظة المؤمنين: اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقا أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين، بل ينتفع به فيهما، ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة، أما كونه ضررا عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، فاستنكرت ذلك واستبشعته... وقد انضاف إلى ذلك أنك فارقت أولياءه وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى، وشاركت إبليس والكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم، وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وأما كونه ضررا في الدنيا، فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا، أو تتعذب به، ولا تزال في كمد وغم، إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها، وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم، فتبقى مغموما ضيق الصدر، فقد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقدا، ولا تزول النعمة عن المحسود بحسدك، ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة ـ إن كنت عاقلا ـ أن تحذر من الحسد، لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة؟ فما أعجب من يتعرض لسخط الله من غير نفع يناله، بل مع ضرر يحتمله، وألم يقاسيه، فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة، وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح، لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح، أما منفعته في الدين: فهو أنه مظلوم من جهتك، لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه، وهتك ستره، وذكر مساوئه، فهذه هدايا تهديها إليه، إذ تهدي إليه حسناتك، حتى تلقاه يوم القيامة مفلسا محروما كما حرمت في الدنيا عن النعمة، فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك، إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة، وصرت مذموما عند الخالق والخلائق، شقيا في الحال والمآل، ونعمة المحسود دائمة، شئت أم أبيت باقية، ومن تفكر بهذا بذهن صاف وقلب حاضر، انطفأت نار الحسد من قلبه، وأما العمل النافع فيه فهو أن يكلف نفسه نقيض ما يتقاضاه الحسد، وذلك بالتواضع للمحسود، والثناء، والمدح، وإظهار السرور بالنعمة فتعود القلوب إلى التآلف والتحاب، وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض، فهذه هي أدوية الحسد، وهي نافعة جدا، إلا أنها مرة على القلوب جدا، ولكن النفع في الدواء المر، فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء، وإنما تهون مرارة هذا الدواء ـ أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم بالمدح والثناء ـ بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها، وقوة الرغبة في ثواب الرضاء بقضاء الله تعالى. اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين: الحسد هو كراهة ما أنعم الله به على غيره، وليس هو تمني زوال نعمة الله على الغير، بل هو مجرد أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره، فهذا هو الحسد، سواء تمنى زواله أو أن يبقى، ولكنه كاره له، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال: الحسد كراهة الإنسان ما أنعم الله به على غيره، والحسد قد لا تخلو منه النفوس، يعني قد يكون اضطراريًّا للنفس، ولكن جاء في الحديث: إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق ـ يعني أن الإنسان يجب عليه إذا رأى من قلبه حسدًا للغير ألا يبغي عليه بقول أو فعل، فإن ذلك من خصال اليهود الذين قال الله عنهم: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا {النساء: 54} ثم إن الحاسد يقع في محاذير:

أولًا: كراهيته ما قدره الله، فإن كراهته ما أنعم الله به على هذا الشخص كراهة لما قدره كونًا ومعارضة لقضاء الله عز وجل.
ثانيا: أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، لأن الغالب أن الحاسد يعتدي على المحسود بذكر ما يكره وتنفير الناس عنه، والحطّ من قدره وما أشبه ذلك.

ثالثا: ما يقع في قلب الحاسد من الحسرة والجحيم والنار التي تأكله أكلا، فكلما رأى نعمة من الله على هذا المحسود اغتم وضاق صدره، وصار يراقب هذا الشخص كلما أنعم الله عليه بنعمة حزن واغتم وضاقت عليه الدنيا.
رابعا: أن في الحسد تشبهًا باليهود، معلوم أن من أتى خصلة من خصال الكفار صار منهم في هذه الخصلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من تشبه بقوم فهو منهم.
خامسًا: أنه مهما كان حسده ومهما قوي لا يمكن أبدًا أن يرفع نعمة الله عن الغير، إذا كان هذا غير ممكن فكيف يقع في قلبه الحسد؟.
سادسًا: أن الحسد ينافي كمال الإيمان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ـ ولازم هذا أن تكره أن تزول نعمة الله على أخيك، فإذا لم تكن تكره أن تزول نعمة الله عليك فأنت لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وهذا ينافي كمال الإيمان.
سابعًا: أن الحسد يوجب إعراض العبد عن سؤال الله تعالى من فضله، فتجده دائما مهتمًا بهذه النعمة التي أنعم الله بها على غيره، ولا يسأل الله من فضله، وقد قال الله تعالى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ {النساء: 32}.
ثامنًا: أن الحسد يوجب ازدراء نعمة الله عليه، أي أن الحاسد يرى أنه ليس في نعمة، وأن هذا المحسود في نعمة أكبر منه، وحينئذ يحتقر نعمة الله عليه، فلا يقوم بشكرها، بل يتقاعس.
تاسعا: الحسد خلق ذميم، لأن الحاسد يتتبع نعم الله على الخلق في مجتمعه، ويحاول بقدر ما يمكنه أن يحول بين الناس وبين هذا المحسود بالحطّ من قدره أحيانًا، وبازدراء ما يقوم به من الخير أحيانًا إلى غير ذلك.

عاشرًا: إن الحاسد إذا حسد فالغالب أن يعتدي على المحسود وحينئذ يأخذ المحسود من حسناته يوم القيامة، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء، وإلا أخذ من سيئاته فطرح عليه، ثم طرح في النار.

والخلاصة: أن الحسد خلق ذميم... وأنت يا أخي إذا رأيت الله قد أنعم على عبده نعمة ما فاسع أن تكون مثله، ولا تكره من أنعم الله عليه فقل: اللهم زده من فضلك وأعطني أفضل منه، والحسد لا يغير شيئا من الحال، لكنه كما ذكرنا آنفًا فيه هذه المفاسد وهذه المحاذير العشرة، ولعل من تأمل وجد أكثر، والله المستعان. اهـ.

وراجعي لمزيد الفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 69659، 126642، 171321.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني