الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنود أولًا ـ قبل أن نبدأ في الإجابة عن الأمور الثلاثة المهمة في سؤالك ـ أن نذكرك بأن وجوب برّ الوالدين، وصلة رحمهما، لا يسقط مهما وقع منهما من إساءة، وظلم، وعليك أن تصبر على أذاهما، وتحسن إليهما مهما بدر منهما؛ فإن الله يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {لقمان:15}، وينظر في ذلك الفتويين: 4296، 187781.
وبعد، فهذا بيان الأمور الثلاثة التي حيرتك:
أما الأمر الأول: فعليك أن تسدي النصيحة لأبيك لئلا يضع الوديعة في بنك ربوي، وتأكل فوائدها، وذلك باللين، والحكمة كتابة، أو مشافهة، أو بتوسيط من يقبل نصحه من الشيوخ، والأرحام؛ فإن الاحتساب على الآباء بالحسنى من أعظم البرّ، وفي الاستثمارات الشرعية في البنوك الإسلامية، بديل صالح، يغني عن الربا، لمن رضي باليسير، فإن أبى إلا الربا، فأخبره أنك لن تأخذ مليمًا واحدًا من عوائد الوديعة، فإنه لا يحل لك أن تأخذ شيئًا من الربا لا من وديعة أبيك، ولا من غيره، إلا إذا كنت مضطرًّا لذلك كاضطرارك لأكل الميتة، وبقدر ما يدفع عنك الضرورة فحسب، وينظر في حد الضرورة المبيحة لأكل الربا الفتوى رقم: 6501.
وإذا كنت قادرًا على الكسب والنفقة على نفسك بقدر الكفاية، فلا تجب عليه نفقتك ما دمت بالغًا، وأما أختك فنفقتها عليه واجبة قدر الكفاية، إلى أن تتزوج، كما فصلنا ذلك في الفتويين: 119636، 139301.
وأما الأمر الثاني: فتوكيلك أمك، أو غيرها في القضايا المرفوعة على أبيك، فيه تفصيل: فإن امتنع الأب عن أداء النفقة الواجبة عليه لأولاده، وكان ميسورًا، ولم يبق من سبيل لاستيفاء هذا الحق إلا باللجوء إلى القضاء، فيجوز ذلك التوكيل لتعيّنه سبيلًا لاستيفاء الحق الواجب.
أما إذا كان عاجزًا عن النفقة، أو لا تجب عليه، فهذا التوكيل من الإعانة على الظلم، والعقوق، وهو من أكبر الكبائر، وللمزيد في هذه المسألة تنظر الفتوى رقم: 30466.
وأما الأمر الثالث: فما يعطيه الأب لبعض أبنائه من ثمن بيع الشقة، يختلف الحكم عليه بحسب قصد الوالد من الإعطاء:
أ / فإن كان على سبيل النفقة: فإن العدل في النفقة بين الأولاد يتم بإعطاء كل واحد منهم كفايته حسب حاجته، كما بيناه في الفتوى رقم: 114071
ب/ وإن كان على سبيل الهبة: فما ذكرته في سؤالك من لزوم العدل بين الأولاد في الهبة على قدر حصصهم من الميراث، هو قول الحنابلة.
قال الحجاوي في الإقناع: ويجب على الأب، والأم، وغيرهما التعديل بين من يرث بقرابة من ولد، وغيره، في عطيتهم: لا في شيء تافه: بقدر إرثهم إلا في نفقة، وكسوة، فتجب الكفاية (دون التعديل). اهـ. وتنظر الفتوى رقم: 126473.
غير أن الذي عليه جمهور الفقهاء، والمرجح عندنا في الشبكة الإسلامية، أن العدل يكون بالمساواة المطلقة، لا بحسب حصصهم في الميراث، وهو ما بيناه في الفتوى رقم: 112748، لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا فرق أكانوا من الأم الأولى المطلقة، أم من الثانية الزوجة، والصحيح المرجح عندنا أيضًا أن العدل بين الأولاد واجب، كما بيناه بالأدلة في الفتويين: 14254، 111127، خلافًا لمن رآه مستحبًا من الفقهاء - رحمهم الله أجمعين -.
وأما ما أشرت إليه آخرًا من تركيز الوعاظ، والشيوخ على عقوق الآباء دون حقوق الأبناء، فإنما هو لعظم حق الوالدين، وكثرة عقوق الأولاد، وإلا فكلا الموضوعين واجب البيان، وإن كان ذلك التقصير واقعًا، فليس مبررًا لعقوق الآباء والأمهات بعد بلوغ البيان، وقد نبهنا إلى حقوق الأبناء على الآباء، وواجب الآباء على الأبناء في كثير من الفتاوى، فراجع منها على سبيل المثال الفتاوى: 211768، 23307، 190121.
والله أعلم.