الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي نراه فيما ذكرت أن تناقش جماعة المسجد في هذا الأمر ليؤخروا الصلاة حتى يزول الشك ويحصل للجميع اليقين بأن الصلاة تؤدى في وقتها، وهذا بلا شك هو الحل الأمثل، فإن حصل فبها ونعمت، وإن أصروا على الوقت الحالي وكنت شاكا شكا مبنيا على قرائن واضحة لك فأخر صلاتك حتى تتيقن دخول الوقت، ولكن في هذه الحالة نرى أن لا تشوش على الناس، بل عليك أن تخاطب الجهات الرسمية بذلك لتتأكد من الأمر وتصدر توجيها بموجبه، لأن فارق نصف ساعة وقت كثير جدا، ومعلوم أن تحديد أوقات الصلوات في التقويم مبني على حسابات فلكية دقيقة، والأصل أنه يشترك في وضعها علماء في الفلك وفقهاء، والغالب موافقته لواقع الأمر؛ وحصول الخطأ في مكان أو زمان ما لا يجعله عاما، وقد بينا طرفا من ذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 215440، 143083، 110567.
لكنا ننبه على أمر مهم ألا وهو أن كثيرا مما يكون من ذلك سببه اختلاف الناس في ملاحظة طلوع الفجر، فبعضهم لا يتبينه إلا بعد تمنكه ووضوحه جدا، وبعضهم يتبينه بمجرد طلوعه. ويشرع أداء الصبح في أول وقتها، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه: أنه كان يصلي الصبح بغلس. رواه البخاري ومسلم.
بل قال ابن قدامة في المغني: وأما صلاة الصبح: فالتغليس بها أفضل، وبهذا قال الشافعي وإسحاق، وروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي موسى وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ما يدل على ذلك، وقال ابن عبد البر: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون، ومحال أن يتركوا الأفضل ويأتون الدون، وهم النهاية في إتيان الفضائل ـ إلى أن قال: ولنا ما تقدم من حديث جابر وأبي برزة وقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس ـ متفق عليه، وعن أبي مسعود الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلس بالصبح ثم أسفر مرة ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله ـ رواه أبو داود، قال الخطابي: وهو صحيح الإسناد. انتهى.
وقال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شارحاً الحديث المتفق عليه السابق: الغلس اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل، وفي هذا الحديث حجة لمن يرى التغليس في صلاة الفجر وتقديمها في أول الوقت، لا سيما ما روي من طول قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، وهذا مذهب مالك والشافعي، وخالف أبو حنيفة، ورأى أن الإسفار بها أفضل لحديث ورد فيه: أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر. انتهى.
وربما يخفى طلوع الفجر على بعض الناس ما لم يتضح جدا بينما يتبين لآخرين، وعلى كل فالعبرة بتحقق طلوع الفجر لا بالتقويم والحساب الفلكي، ولو كان يغلب عليه الدقة أو القرب منها غالبا.
والله أعلم.