الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الشاب عاصٍ بوجوده في هذا المكان لفعل هذه المعصية، فإذا قُتل ظلمًا دفاعًا عن ماله، أو نفسه، فقد اختلف أهل العلم في حكمه هل له حكم الشهيد بسبب أنه قتل مظلومًا أم ليس له حكم الشهيد بسبب أنه تسبب في قتل نفسه بوجوده في هذا المكان المحرم؟
فيرى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يقال عنه إنه شهيد؛ فقد سئل -رحمه الله- كما في مجموع الفتاوى: عَنْ رَجُلٍ رَكِبَ الْبَحْرَ لِلتِّجَارَةِ، فَغَرِقَ فَهَلْ مَاتَ شَهِيدًا؟
فَأَجَابَ: نَعَمْ، مَاتَ شَهِيدًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِرُكُوبِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْغَرِيقُ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِيقُ شَهِيدٌ، وَالْمَيِّتُ بِالطَّاعُونِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا شَهِيدَةٌ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ". وَجَاءَ ذِكْرُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ.
وَرُكُوبُ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ جَائِزٌ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ. وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ: إنَّهُ شَهِيدٌ. انتهى.
وأشار إلى الاختلاف في هذه المسألة الشربيني في مغني المحتاج، واختار -تبعًا للزركشي- أن المعصية هنا لا تمنع الشهادة، فقال -رحمه الله-: شَهِيدٌ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ فَقَطْ، كَالْمَقْتُولِ ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَالْمَبْطُونِ إذَا مَاتَ بِالْبَطْنِ، وَالْمَطْعُونِ إذَا مَاتَ بِالطَّاعُونِ، وَالْغَرِيقِ إذَا مَاتَ بِالْغَرَقِ، وَالْغَرِيبِ إذَا مَاتَ فِي الْغُرْبَةِ، وَطَالِبِ الْعِلْمِ إذَا مَاتَ عَلَى طَلَبِهِ، أَوْ مَاتَ عِشْقًا، أَوْ بِالطَّلْقِ، أَوْ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ الْغَرِيبِ: الْعَاصِيَ بِغُرْبَتِهِ؛ كَالْآبِقِ، وَالنَّاشِزَةِ، وَمِنْ الْغَرِيقِ: الْعَاصِيَ بِرُكُوبِهِ الْبَحْرَ، كَأَنَّهُ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمَ السَّلَامَةِ، أَوْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ، أَوْ رَكِبَهُ لِشُرْبِ خَمْرٍ، وَمِنْ الْمَيِّتَةِ بِالطَّلْقِ: الْحَامِلَ بِزِنًا، وَالظَّاهِرُ -كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ- فِيمَا عَدَا الْأَخِيرَةَ، وَفِي الْأَخِيرَةِ أَيْضًا أَنَّ مَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ. انتهى.
فهذا الشاب، وأمثاله على خطر كبير، فإنه قد يختم له بارتكاب كبيرة تنتهي لذتها في زمن يسير، وتنتهي معها حياته من غير توبة، ولا أوبة، وفي الآخرة يقف بين يدي ربه بتلك الكبيرة، ولا ضمان له بتحقق الشهادة، ففي ذلك دلالة واضحة على شؤم المعاصي.
وكان الأولى بالسائل أن يسأل عن سبل بُعْد هذا الشاب، وإقلاعه عن المعصية لإنقاذه منها، لا أن يسأل عن الشهادة له حال معصيته.
والله أعلم.