الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلعل السائل قد اختلط عليه موضوع الحسد بموضوع العين، وسوف نبين له المقصود بكل منهما، والعلاقة بينهما.
فالمقصود بالحسد -كما قال العلماء- هو: تمني الحاسد زوال نعمة المحسود، وإن لم يصل للحاسد منها شيء، ويقال لصاحبه: حاسد.
جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- عند تعريف الحسد قال: فالحسد حدُّه كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ، وَحُبُّ زَوَالِهَا عَنِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ. انتهى.
وقال النووي -رحمه الله تعالى- في رياض الصالحين: الْحَسَدُ هُوَ تَمَّنِي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، سواءٌ كَانَتْ نعمة دينٍ، أَوْ دنيا. انتهى.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: وَالْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ. انتهى.
-أما العين: فهي قوة نفسية تؤثر في الأبدان، والنفوس، ويقال لصاحبها عائن، وكثيرًا ما كان الحسد سببًا لتسلط العائن على صاحب النعمة، فيضره بهذه القوة النفسية.
قال عنها ابن القيم في الطب النبوي: وَهِيَ سِهَامٌ تَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ الْحَاسِدِ، وَالْعَائِنِ نَحْوَ الْمَحْسُودِ، وَالْمَعِينِ تُصِيبُهُ تَارَةً، وَتُخْطِئُهُ تَارَةً، فَإِنْ صَادَفَتْهُ مَكْشُوفًا لَا وِقَايَةَ عَلَيْهِ، أَثَّرَتْ فِيهِ. انتهى.
وقال أيضا: فَكُلُّ عَائِنٍ حَاسِدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ حَاسِدٍ عَائِنًا، فَلَمَّا كَانَ الْحَاسِدُ أَعَمَّ مِنَ الْعَائِنِ كَانَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ اسْتِعَاذَةً مِنَ الْعَائِنِ. انتهى.
وبهذا تعلم أن الحسد غير العين، وأن الحاسد غير العائن، لكن بينهما علاقة، وهي كما قال ابن القيم في زاد المعاد: الحسد أصل الإصابة بالعين، وقال بعضهم: العين نظر باستحسان قد يشوبه شيء من الحسد، ويكون الناظر خبيث الطبع.... انتهى.
وأما كيف يضر الحاسد المحسود؟ فقد بينه ابن القيم في زاد المعاد فقال: فَإِنَّ النَّفْسَ الْخَبِيثَةَ الْحَاسِدَةَ تَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ خَبِيثَةٍ، وَتُقَابِلُ الْمَحْسُودَ، فَتُؤَثِّرُ فِيهِ بِتِلْكَ الْخَاصِّيَّةِ، وَأَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الْأَفْعَى، فَإِنَّ السُّمَّ كَامِنٌ فِيهَا بِالْقُوَّةِ، فَإِذَا قَابَلَتْ عَدُوَّهَا، انْبَعَثَتْ مِنْهَا قُوَّةٌ غَضَبِيَّةٌ، وَتَكَيَّفَتْ بِكَيْفِيَّةٍ خَبِيثَةٍ مُؤْذِيَةٍ، فَمِنْهَا مَا تَشْتَدُّ كَيْفِيَّتُهَا، وَتَقْوَى حَتَّى تُؤَثِّرَ فِيها. انتهى.
وأما بقية الإشكالات والاعتراضات في السؤال؛ فقد أجاب عنها ابن القيم، فننقل للسائل الكريم الجواب عنها من كتابه الطب النبوي حيث قال:
أَبْطَلَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ قَلَّ نَصِيبُهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ أَمْرَ الْعَيْنِ، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَمِنْ أَغْلَظِهِمْ حِجَابًا، وَأَكْثَفِهِمْ طِبَاعًا، وَأَبْعَدِهِمْ مَعْرِفَةً عَنِ الْأَرْوَاحِ، وَالنُّفُوسِ، وَصِفَاتِهَا، وَأَفْعَالِهَا، وَتَأْثِيرَاتِهَا.. وَعُقَلَاءُ الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ، وَنِحَلِهِمْ لَا تَدْفَعُ أَمْرَ العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه، وَجِهَةِ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ... وَهَؤُلَاءِ قَدْ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَابَ الْعِلَلِ، وَالتَّأْثِيرَاتِ، وَالْأَسْبَابِ، وَخَالَفُوا الْعُقَلَاءَ أَجْمَعِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- خَلَقَ فِي الْأَجْسَامِ، وَالْأَرْوَاحِ قُوًى، وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةً، وَجَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، خَوَاصَّ، وَكَيْفِيَّاتٍ مُؤَثِّرَةً، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ إِنْكَارُ تأثير الأرواح في الْأَجْسَامِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، وَأَنْتَ تَرَى الْوَجْهَ كَيْفَ يَحْمَرُّ حُمْرَةً شَدِيدَةً، إِذَا نَظَرَ إليه من يحتشمه، ويستحي منه، وَيَصْفَرُّ صُفْرَةً شَدِيدَةً، عِنْدَ نَظَرِ مَنْ يَخَافُهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مَنْ يَسْقَمُ مِنَ النَّظَرِ، وَتَضْعُفُ قُوَاهُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِوَاسِطَةِ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ، وَلِشِدَّةِ ارْتِبَاطِهَا بِالْعَيْنِ يُنْسَبُ الْفِعْلُ إِلَيْهَا، وَلَيْسَتْ هِيَ الْفَاعِلَةَ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِلرُّوحِ، وَالْأَرْوَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا، وَقُوَاهَا، وَكَيْفِيَّاتِهَا، وَخَوَاصِّهَا، فَرُوحُ الْحَاسِدِ مُؤْذِيَةٌ لِلْمَحْسُودِ أَذًى بَيِّنًا، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- رَسُولَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ شَرِّهِ، وَتَأْثِيرُ الْحَاسِدِ فِي أَذَى الْمَحْسُودِ، أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهُوَ أَصْلُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ،... وَمِنْهَا، مَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِنْسَانِ كَيْفِيَّتُهَا بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ اتِّصَالٍ بِهِ، لِشِدَّةِ خُبْثِ تِلْكَ النَّفْسِ، وَكَيْفِيَّتِهَا الْخَبِيثَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَالتَّأْثِيرُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى الِاتِّصَالَاتِ الْجِسْمِيَّةِ، كَمَا يَظنُّهُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ بِالطَّبِيعَةِ وَالشَّرِيعَةِ. اهـ
والله أعلم.