الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 522 ] ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها أمر السلطان ببناء قلعة الجبل وإحاطة سور على القاهرة ومصر يشملهما جميعا ، فعمرت قلعة للملك لم يكن في الديار المصرية مثلها ولا على شكلها ، وولي عمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش مملوك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كانت وقعة الرملة على المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي جمادى الأولى منها سار السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر قاصدا غزو الفرنج ، فانتهى إلى بلاد الرملة فسبى وسلب وغنم وقسر وكسر وكسب ، ثم تشاغل جيشه بالغنائم ، وتفرقوا في القرى والمحال تفرق الهائم ، وبقي السلطان في طائفة من الجيش منفردا ، فهجمت عليه الفرنج في جحفل من المقاتلة ، فما سلم السلطان إلا بعد جهد جهيد ، ولله الحمد ، ثم تراجع الجيش بعد تفرقهم ، واجتمعوا عليه بعد أيام ، ووقعت الأراجيف في الناس بسبب ذلك ، وما صدق أهل الديار المصرية برؤيته بعدما بلغهم من الإرجاف والإرهاب ، وصار الأمر كما قيل :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 523 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رضيت من الغنيمة بالإياب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومع هذا دقت البشائر في البلدان فرحا بسلامة السلطان ، ولم تجر مثل هذه الوقعة إلا بعد عشر سنين ، وذلك يوم حطين والحمد لله رب العالمين ، وقد ثبت السلطان في هذه الوقعة ثباتا عظيما ، وأسر للملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان ولده شاهنشاه ، فبقي عندهم سبع سنين ، وقتل ابنه الآخر ، وكان شابا قد طر شاربه ، فحزن على المقتول والمفقود ، وصبر تأسيا بأيوب ، وناح كما ناح داود ، وأسر الفقيهان الأخوان ، ضياء الدين عيسى ، وظهير الدين ، فافتداهما السلطان بعد سنين بسبعين ألف دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها تخبطت الدولة بحلب ، وقبض السلطان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين على الخادم كمشتكين ، وألزمه بتسليم قلعة حارم وكانت له ، فأبى من ذلك ، فعلقه منكوسا ، ودخن تحت أنفه حتى مات من ساعته . وقصدت الفرنج حارما فامتنعت عليهم ، ثم سلمت إلى الملك الصالح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها جاء ملك كبير من ملوك الفرنج يروم أخذ الشام لغيبة السلطان واشتغال نوابه بلذاتهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال العماد الكاتب : ومن شرط هدنة الفرنج أنه متى جاء ملك كبير من ملوكهم لا يمكنهم دفعه فإنهم يقاتلون معه ويؤازرونه وينصرونه ، فإذا انصرف [ ص: 524 ] عنهم عادت الهدنة كما كانت ; فقصد هذا الملك وجملة الفرنج معه مدينة حماة ، وصاحبها شهاب الدين محمود خال السلطان مريض ، ونائب دمشق ومن معه من الأمراء مشغولون بلذاتهم ، فكادوا يأخذون البلد ، ولكن هزمهم الله بعد أربعة أيام ، فانصرفوا إلى حارم فلم يتمكنوا من أخذها ، وكشفهم عنها الملك الصالح صاحب حلب وقد دفع إليهم من الأموال والأسارى ما طلبوه . وتوفي صاحب حماة الأمير شهاب الدين محمود بن تكش ، خال السلطان الناصر ، وتوفي قبله ولده بثلاثة أيام ، رحمهما الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما سمع الملك الناصر بنزول الفرنج على حارم خرج من مصر قاصدا بلاد الشام ; لغزو الفرنج - لعنهم الله تعالى - فكان دخوله إلى دمشق في الرابع والعشرين من شوال ، وصحبته العماد الكاتب ، وتأخر القاضي الفاضل بمصر ناويا أداء الحج في هذا العام ، تقبل الله منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها جاء كتاب القاضي الفاضل إلى الناصر يهنئه بوجود مولود له ، وهو أبو سليمان داود ، وبه كمل له اثنا عشر ذكرا ، وقد ولد له بعده عدة أولاد ذكور أيضا ، فإنه توفي عن سبعة عشر ذكرا وابنة صغيرة اسمها مؤنسة ، التي تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل ، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة جرت فتنة عظيمة بين اليهود والعامة ببغداد ، وكانت بسبب أن مؤذنا عند كنيسة اليهود نال منه بعض اليهود بكلام ، فشتمه المسلم ، فاقتتلا ، [ ص: 525 ] فجاء المؤذن يشتكي منه إلى الديوان ، وتفاقم الحال ، وكثرت العوام ، وأكثروا الضجيج ، ولما كان يوم الجمعة منعت العامة إقامة الخطبة في بعض الجوامع ، وخرجوا من فورهم ، فنهبوا سوق العطارين الذي فيه اليهود ، وذهبوا إلى كنيسة اليهود فنهبوها ، ولم يتمكن الشرط من ردهم ، فأمر الخليفة بصلب بعض العامة ، فأخرج في الليل جماعة من الشطار الذين كانوا في الحبوس وقد وجب عليهم القتل فصلبوا ، فظن كثير من الناس أن هذا كان بسبب هذه الكائنة . فسكنت الفتنة ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها خرج وزير الخليفة عضد الدولة ابن رئيس الرؤساء ابن المسلمة قاصدا الحج ، وخرج الناس في خدمته ليودعوه ، فتقدم إليه ثلاثة من الباطنية في صورة فقراء ومعهم قصص ، فتقدم أحدهم ليناوله القصة فضربه بالسكين ضربات ، وهجم الثاني ، وكذلك الثالث فهبروه وجرحوا جماعة حوله ، وقتل الثلاثة من فورهم وحرقوا ، ورجع الوزير إلى منزله محمولا فمات في يومه ، وهذا الوزير هو الذي قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأعدمهما ، فسلط الله عليه من قتله ، وكما تدين تدان ، جزاء وفاقا . وما ربك بظلام للعبيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية