أوروبا.. محاكم التفتيش تعود من جديد!

18/04/2010| إسلام ويب

لم يعد الأمر سرًا أو خافيًا، ولم تعد تفاصيله تُنسج في الأقبية والدهاليز.. بل بات الكلام فيه مفضوحًا منتشرًا، تسير به الركبان؛ فأوروبا باتت تشعر بالقلق البالغ من وجود المسلمين على أراضيها، وباتت تشعر بخطر داهم يهدد هويتها، ويبدو أنها قررت استدعاء أسوأ خبراتها في التعامل مع المسلمين بصورة تناسب عصرنا وما استُجد فيه من قيم ومبادئ.
فمحاكم التفتيش مازالت عالقة في ذهن العقلية الأوروبية، كأنجح وسيلة استخدمتها لطرد المسلمين نهائيًا من القارة الأوروبية ومن الأندلس تحديدًا، بعد أن فرضت عليهم قوانين الكثلكة قسرًا وقهرًا؛ إلغاءً للتنوع ونزوعًا نحو التوحد خلف مذهب ديني واحد ومعتقد واحد.

واليوم تنتهج أوروبا العلمانية نفس النهج في تعاملها مع الجاليات الإسلامية بعد أن شعرت أن قارتها العجوز تتجه نحو الإسلام على إثر التزايد المطرد في أعداد المسلمين وما يقابله على الضفة الأخرى من انخفاض في معدلات المواليد في الدول الأوروبية، فقد نشرت صحيفة "الديلي تليجراف" البريطانية تقريرًا منذ فترة وجيزة حذرت فيه من أن أوروبا تواجه قنبلة زمنية ديموغرافية، تتمثل في تزايد مطرد للجاليات المسلمة المهاجرة، مما يهدد تلك القارة بتغيرات جذرية لا يمكن تدارك أبعادها خلال العقدين المقبلين، وأشار التقرير إلى انخفاض معدل المواليد لدى الأوروبيين، مقابل سرعة "تكاثر" المهاجرين المسلمين، وهو أمر يؤثر على الثقافة والمجتمع الأوروبي، كما يلقي بتداعيات خطيرة على السياسة الخارجية للقارة.

ويستند التقرير لإحصائيات تشير إلى تضاعف تعداد الجاليات المسلمة في أوروبا خلال الأعوام الثلاثين الماضية مع توقعات بتضاعفها مجددًا بحلول عام 2015م؛ حيث قفزت نسبة الجالية المسلمة في "إسبانيا" من 3.2 في المائة عام 1998 إلى 13,4 في المائة في عام 2007، هذا فيما ظهرت إحصائيات تتوقع تراجع تعداد سكان دول الاتحاد بـ 16 مليون نسمة بحلول عام 2050م.

ووفقًا للتقرير أيضًا فإن أسماء: محمد، وآدم، وريان، وأيوب، ومهدي، وأمين، وحمزة، باتت من أكثر سبعة أسماء شيوعًا واستخدامًا في "بلجيكا" التي تشكل مقر الاتحاد الأوروبي.

وقُدر تعداد الجاليات المسلمة في أوروبا بين 15 مليون إلى 23 مليون نسمة، مع توقع أن تصل نسبة الذين يعتنقون الإسلام إلى أكثر من 20 في المائة من سكان أوروبا، كما تشير توقعات إلى أن أعداد المسلمين ستتفوق على سواهم في "فرنسا"، وربما في معظم دول أوروبا الغربية في منتصف القرن الحالي.

كما أن أوروبا العلمانية فشلت حتى الآن في دمج المسلمين في الواقع الثقافي والحضاري، وهو الأمر الذي أعطى المسلمين تميزًا ثقافيًا وحضاريًا تشعر معه أوروبا كل يوم بالقلق المتنامي من هذه الظاهرة.

وتجدر هنا الإشارة إلى ملاحظتين هامتين:

الأولى: أن أوروبا في تعبيرها عن قلقها من التميز الثقافي والحضاري للمسلمين داخلها ترتدُّ بذلك عن أهم مبادئ الليبرالية، وهي الإيمان بالتعددية الثقافية والحضارية والتي تمثل في الوقت ذاته قوة دافعة للمجتمع إذا أحسن استغلالها، ناهيك عن أن التنوع الحضاري والثقافي قائم وبشدة بين مختلف الأجناس والمجتمعات التي تشكِّل الكيان الأوروبي، ولكنه تنوعٌ في نهاية المطاف يدور داخل إطار الدائرة العلمانية اللادينية، وهي الدائرة الحقيقية التي تريد أوروبا إدخال المسلمين إليها.

الثانية: مقولة أن أوروبا تخلت عن الدين نهائيًّا اتساقًا مع التفسير الحرفي للعلمانية هي مقولة فارغة؛ فمازال الدين يلعب دورًا بارزًا في توجيه الأحداث. وكما يقول د.حامد ربيع: "كل من له خبرة في التحليل السياسي الدولي يعلم أن الفاتيكان يمثِّل اليوم إحدى القوى الضاغطة الدولية التي تكاد تسيطر على جميع مسارات التعامل في النطاق العالمي، وهي لا تقتصر على أن تؤدي وظيفتها الضاغطة في الدول الكاثوليكية، بل إنها تتسرب من خلال مسالك متعددة. فالصهيونية في حقيقة الأمر لا تجد قوة حقيقة تساندها سوى النفوذ الكهنوتي، بمعنى القوة الدينية المنبعثة من ذلك الموقع والتي تتعاطف معها قوى الكنيسة في جميع أجزاء العالم"، وهو الأمر الذي يعطي للمسلمين الحق في الخصوصية الثقافية والدينية.

خريطة التميز

التقرير الذي أصدره اتحاد هلسنكى العالمي حاول أن يبرز مظاهر التميز التي تمارَس ضد المسلمين في أوروبا، والتي تصاعدت حدتها عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فعلى الصعيد الاجتماعي أفاد التقرير بأن "المناخ الاجتماعي الذي يعيش فيه المسلمون في الدول التي جرى عليها البحث قد ساء منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر"، وأن الأحكام المسبقة وألوان التمييز تجاه المسلمين قد ازدادت أيضًا؛ فعلى سبيل المثال زادت التحرشات - التي تنم عن كراهية الأجانب - ضد المسلمين في الأماكن العامة، وعلى الرغم من أن معظمها لم يتجاوز حد السب، إلا أن التقرير قد أورد أدلة فعلية على أعمال عنف تجاه الأشخاص وأعمال تخريبية.

ويقول التقرير أيضًا: إن كثيرًا من هذه الاعتداءات لم تقدَّم بها شكاوى عند الشرطة؛ لأن الضحايا لم يكن في اعتقادهم أن رجال الشرطة سوف يهتمون بالأمر.

ويذكر التقرير أنه في بعض بلاد الاتحاد الأوروبي قد أصبح "مسموحًا" بـ"مواجهة المسلمين بالعداء واستخدام التعبيرات المعادية ضدهم"، إلا أن المحاكم كانت لها بالفعل يد في الدفاع عن حقوق المسلمين.

فعلى سبيل المثال حكمت المحكمة الدستورية النمساوية في أكتوبر عام 2004 ببطلان بعض قوانين اللجوء الجديدة وطالبت بإلغائها. وهناك حكم آخر أصدرته المحكمة العليا في الدانمرك بالحبس مع إيقاف التنفيذ على أحد أعضاء حزب متطرف قام بسب المسلمين.

كما أفاد التقرير بأن التغيرات السياسية التي تشهدها البلدان الأوروبية تنعكس آثارها السلبية على الجاليات المسلمة، فقد شكَّل نجاح الأحزاب اليمينية الأوروبية الفاشية الجديدة والمعادية للأجانب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تحديًّا كبيرًا أمام الأقليات العرقية والدينية وحتى الديمقراطية السياسية الأوروبية. وأكثر ما تعاني منه الجاليات المسلمة هو أن بلاغة تلك الأحزاب لا تتضمن فقط تخويفًا من الأجانب ولكنها معادية للمسلمين أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، أعربت الجبهة الوطنية في فرنسا أن "القيم الإسلامية" لا "تتفق مع قيم المدنية الفرنسية".

وقد حُكم على رئيس الجبهة الوطنية جان ماري لوبان بغرامة مالية إثر نشره مقالاً صحفيًّا عن "التحريض على كراهية الأجانب" في أبريل 2004. وحزب الشعب اليميني المتطرف في الدانمرك يتهم المسلمين بأنهم "يقوِّضون القيم الديمقراطية وينادون بالعنف". والسياسي الهولندي بيم فورتون، الذي اغتيل صرح بقيام "حرب باردة جديدة ضد الإسلام".

وقد أورد تقرير اتحاد هلسنكي العالمي بعض التصريحات المعادية للمسلمين لقادة سياسيين ديمقراطيين أمثال رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني، الذي قال بـ"أن الحضارة الغربية متميزة على الحضارة الإسلامية"، كما ذكر التقرير أيضًا عبارة "الثقافة المعيارية" التي تبناها الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا.

كما أثبت التقرير تحيز الإعلام في الدول التي جرى عليها البحث، وقيامه عادة بالحديث عن الموضوعات الاستفزازية التي تمس الإسلام والمسلمين. وأوضح التقرير أن "الإعلام يميل إلى تقديم المسلمين بصورة متكررة في قالب سيئ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر"، فعلى سبيل المثال نجد التقارير التي يصدرها الإعلام في ألمانيا عن الصراعات في دول البلقان والشرق الأوسط تهدف في المقام الأول إلى "الربط بين الإسلام والإرهاب"، مما يجعل لها "تأثيرًا سلبيًّا على النظرة إلى الإسلام والمسلمين".

وقد أُلقي اللوم على الإعلام البريطاني بأنه قد ساهم "في خلق الأحكام المسبقة ووضع المسلمين موضع الريبة من خلال تقاريره المغرضة التي لا تُغتفر".

وفى آخر تقريره وجه اتحاد هلسنكي العالمي عددًا كبيرًا من الوصايا إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وذلك بجعل الجاليات المسلمة جزءًا مندمجًا في المجتمع الأوروبي وحمايتهم من كل أنواع التمييز.

وطالب بضمان حرية ممارسة العبادات، وأن يكون تطبيق القوانين الخاصة بالهجرة ومحاربة الإرهاب متماشية مع الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان. كما يوصي التقرير أيضًا أن تكف الدول عن التمييز ضد المسلمين، وأن تدعو بانتظام إلى التسامح والحوار، سواء كان في تعامل المواطنين أو الهيئات أو الإعلام مع المسلمين.

إن أشكال التميز التي أشار إليها التقرير السالف قد انعكست الآن على أرض الواقع في صورة ممارسات جدية تريد اقتلاع الهوية الحضارية للمسلمين في أوروبا والتي تأخذ أنماطًا متعددة، مثل الحرب على ارتفاع المآذن في الفضاء الأوروبي والتي شهدت حالة جدل واسعة النطاق في سويسرا، أو في الحرب على الحجاب وإجبار المرأة المسلمة على التعري بالتضييق عليها في أماكن تعليمها وعملها وحتى ترفيهها.

فأوروبا التي وقفت متفرجة على مجازر الإبادة البشرية للمسلمين في البوسنة ولم تتحرك إلا بعد خشيتها من تحول البوسنة إلى قاعدة للجهاد في أوروبا على غرار أفغانستان، تحاول اليوم أن تمارس نوعًا من إبادة الهوية للمسلمين أملاً في إلغاء خصوصياتهم الثقافية والحضارية والتي تراها أوروبا تمثل خطرًا داهمًا على نصرانية القارة.

ألا يمثل ذلك نمطًا حديثًا لمحاكم التفتيش والتي تهدف في المقام الأول إلى إلغاء الآخر وتدميره؟!

www.islamweb.net