لم يختلف منهج الإمام القزويني محمد بن يزيد بن ماجه كثيرا عن مناهج أصحاب السنن؛ ولذا صار كتابه "سنن ابن ماجه" مكمِّلا لما عُرِف بالكتب الستة، حيث سار فيه على منوال مقارب للأئمة الثلاثة (الترمذي والنسائي وأبي داود)، وذلك من حيث الترتيب والتبويب والصناعة الحديثية، إلا أنه دونها في الصحة، لكونه أخرج لبعض الضعفاء والمجهولين، وتفرّد بأحاديث يشوبها نوعٌ من أنواع الضعف، وقد اعتبره أغلب المحدثين سادس الكتب الستة لكثرة زوائده على الكتب الخمسة، وهذه إطلالة سريعة نسلط فيها الضوء على منهجه في السنن .
منهج الإمام ابن ماجه المتعلق بالأسانيد
أولا: عدم ذكر شروطه في أسانيد سننه:
لم يتعرض الإمام ابن ماجه لذكر شرطه في الأسانيد التي أوردها في سننه، وكذا لم يكتب مقدمة يوضِّح فيها منهجه، قال ابن الملقن: "وأما سنن أبي عبد الله بن ماجه القزويني فلا أعلم له شرطا، وهو أكثر السنن الأربعة ضعفا.."، لكن الإمام أبا زرعة الرازي قال في وصف السنن: "طالعت كتاب أبي عبد الله بن ماجه، فلم أجد فيه إلا قدراً يسيراً مما فيه شيء..".
ثانيا: منهجه في التعليق على الأحاديث والحكم عليها:
1- التعليق على الأحاديث: لم يذكر الإمام ابن ماجه حكمه أو تعليقه على الأحاديث التي أوردها في سننه إلا فيما ندر، ومن ذلك قوله بعد حديث وقت صلاة المغرب: "سمعت محمد بن يحيى يقول: اضطرب الناس في هذا الحديث ببغداد، فذهبت أنا وأبو بكرٍ الأعين إلى العوّام بن عبادٍ العوّام، فأخرج إلينا أصل أبيه، فإذا الحديث فيه".
2- ذكر العلل وتوضيحها: بيّن الإمام ابن ماجه بعض الأحاديث المعلولة التي أوردها، ومن ذلك ما فعله بعد إيراده لحديث النهي عن الوضوء بفضل المرأة والنهي عن الاغتسال بفضلها، قال: "الصحيح هو الأول، والثاني وهمٌ"، ولكن هذا التوضيح كان في مرات يسيرة، ثم تولّى بيان ذلك وإيضاحه من جاء بعده ممن شرح كتابه كالدُّميري في الديباجة، أو من جرّد زوائده على الكتب الخمسة كالبوصيري في مصباح الزجاجة.
ثالثا: منهجه في ترتيب أحاديث سننه:
قسّم الإمام ابن ماجه كتابه إلى سبعة وثلاثين كتاباً عدا المقدمة، وبلغ عدد أبوابه ألفاً وخمسمائة وخمسة عشر باباً، وأما عدد الأحاديث فبلغ أربعة آلاف وثلاثمائة وواحد وأربعون حديثاً، وكان ترتيب أحاديثه وفق ما يلي:
1- ترتيب الأبواب: بدأ الإمام ابن ماجه كتابه بأحاديث أصول الدين، ثم سار على الترتيب الفقهي المعروف، لكون أغلب الأحاديث التي أوردها تشتمل على الأحكام، ولذا سُـمّيَ بالسنن، وكان ترتيبه غاية في الدقة والإحكام.
2- ترتيب الأحاديث في الباب: لم يعتمد الإمام ابن ماجه ترتيبا معينا لأحاديث الباب، بل تنوّع ترتيبه بين تقديم الإسناد العالي وتأخير الإسناد النازل والعكس، وكذا تقديم الصحيح على المعلول والعكس.
رابعا: منهجه في الآثار الموقوفة:
أخلى الإمام ابن ماجه كتابه من الآثار الموقوفة إلا فيما ندر، ولم يتعرّض لذكر كلام الأئمة الفقهاء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، الذي استنبطوه من السنن بوجه من وجوه الاستنباط، ولم يكن تركه لذلك عن كراهة أو إنكار، وإنما هو منهج التزمه وسار عليه.
خامسا: منهجه في تكرار الحديث:
سلك الإمام ابن ماجه طريق الاختصار، ولم يسلك طريق التكرار في شيء من أحاديث كتابه، بل سرد الأحاديث باختصار من غير تكرار، وجمع طرق الحديث في موضع واحد دون أن يكرره في موضع آخر.
سادسا: منهجه في بيان طرق الحديث واختصارها:
الأصل في إخراج الأحاديث بأسانيدها أن يُفرَد كل حديث بالرواية سنداً ومتناً، ولكن خشية التطويل دفعت الأئمة - ومنهم الإمام ابن ماجه - إلى اتباع طرق للاختصار، منها:
1- جمع الشيوخ بالعطف: جمع بين شيوخه بالعطف بحرف الواو، طلبا للاختصار، وعدم تكرار الجزء المشترك من الإسناد بأكمله، ومن ذلك قوله في سننه: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعليّ بن محمد، قالا: حدثنا وكيع.." الحديث.
2- جمع الأسانيد بالتحويل: جمع بين الأسانيد باستخدام حرف يدل على التحويل -أي الانتقال من سند إلى آخر- وهو حرف "ح"، والهدف من التحويل اختصار الأسانيد التي تلتقي عند راو معين، بعدم تكرار القدر المشترك بينها، وتوضع حاء التحويل "ح" عند الراوي الذي تلتقي عنده الأسانيد، ويكون عليه مدار مخرج الحديث، وقد توضع حاء التحويل بعد ذكر جزء من المتن، عند الموضع الذي يبدأ فيه اختلاف الروايتين.
3- ذكر بعض الطرق أو جزء من حديث والإشارة إلى الباقي للاختصار: إذا كان للحديث أكثر من إسناد أو متن، فإنه قد يذكر بعضها ويشير إلى باقيها، دون أن يذكرها بطولها، قال الإمام ابن ماجه في سننه بعد أن ذكر أحد الأحاديث: "حدثنا أبو حاتم، حدثنا الأنصاري، حدثنا حميدٌ نحوه"، وقال أيضا بعد أحد الأحاديث: "قال أبو الحسن بن سلمة: أنبأنا الدَّبريّ، عن عبد الرزاق نحوه".
منهج الإمام ابن ماجه المتعلق بالمتون
أولا: منهجه في تراجم الأبواب ومسالكها:
كان الغالب على تراجم أبواب السنن (التراجم الظاهرة)، وقلّما تجد فيها تراجم استنباطية أو مرسلة، ولكن الإمام ابن ماجه نوّع بين المسالك التي استخدمها في تلك التراجم، وينتظم إيضاح ذلك فيما يلي:
1- التراجم الظاهرة: هي التي يدل عنوان الباب فيها على مضمونه من الأحاديث دلالة واضحة، لا يحتاج القارئ فيها إلى إعمال فكره لمعرفة وجه الاستدلال، ومن المسالك التي استخدمها في هذا النوع من التراجم:
- الاستفهام، مثل: "بابٌ الرجل يستيقظ من منامه هل يُدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟".
- الصيغة الخبرية العامة، مثل: "باب افتتاح الصلاة".
- الصيغة الخبرية الخاصة، مثل: "باب الإشارة في التشهد".
- الاقتباس من لفظ الحديث، مثل: "باب من بنى لله مسجداً".
2- التراجم الخفية (الاستنباطية): هي أن يأتي في لفظ الترجمة احتمالٌ لأكثر من معنى، فيعيّن أحد الاحتمالين بما يذكر تحتها من الحديث، أو أن يكون الاحتمال في الحديث والتعيين في الترجمة، ومن المسالك التي استخدمها في هذا النوع من التراجم:
- كون الترجمة أعمُّ من الـمُترجم له، مثل قوله: "باب الجهر بآمين"، ثم أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (إذا أمّن القارئ فأمِّنوا، فإن الملائكة تُؤمِّن، فمن وافق تأمينُه تأمين الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه)، فالترجمة هنا أعمُّ، لأن فيها ذكر الجهر بالتأمين، وليس في الحديث إلا ذكر التأمين مطلقا دون تقييد بجهر أو إسرار.
- كون الترجمة أخصّ من المترجم له، مثل قوله: "باب إفراد الإقامة"، ثم أخرج حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أُمر بلالٌ أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة"، فالترجمة هنا أخصّ، لأن فيها ذكر الإقامة دون الأذان، والحديث فيه ذكر الأذان والإقامة، فهو أعمّ.
ثانيا: منهجه في ذكر الفوائد وإيضاح المُشكل:
كان الإمام ابن ماجه يعتني بالألفاظ الغريبة أحيانا، ولا يلتفت إليها أحيانا أخرى، ومن أمثلة ذلك:
1- غريب الحديث: شرح الإمام ابن ماجه بعض الألفاظ الغريبة وأوضحها، ومن ذلك قوله بعد أن أورد الحديث: "انتقاص الماء: يعني الاستنجاء".
2- ذكر الناسخ والمنسوخ: كان الإمام ابن ماجه يكتفي بتقديم المنسوخ وتأخير الناسخ، دون أن يصرِّح بالنسخ تصريحا.
3- إيضاح المشكل: كان الإمام ابن ماجه يحلُّ ما يمكن أن يُشكِل من المعاني، ومن ذلك ما فعله بعد حديث عائشة رضي الله عنها في المرأة ترى ما يُريـبها بعد الطهر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما هو عرقٌ أو عروقٌ)، قال: "قال محمد بن يحيى: تريد بعد الطُّهر بعد الغُسل".