العقل وعلم الغيب

10/06/2014| إسلام ويب

يقول الله عز وجل متمدِّحا أهل الإيمان: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة:3).
تأمل معي هذه المعادلة من قبيل ما درجنا على تعلمه في الصغر في كتب الرياضيات المدرسية :1 + س =3، وكانوا يضعون مكان (س)، مربعًا فارغًا.

فيكون تقدير السؤال عندئذ: ما العدد المجهول الذي ينبغي ملء المربع به لتكون المعادلة صحيحة بأن يكون طرفاها متساويين ؟

والآن انظر بعينك في أجزاء هذه المعادلة ..ماذا ترى بحاسّة الإدراك البصرية ؟

إنك ترى الرموز الآتية: 1، +، س أو المربع الفارغ، =، 3 ...أليس كذلك ؟ إذن دعنا نقرر هذه الحقيقة جانبًا ونقول : الذي أدركته حاسة البصر هو هذه الرموز المذكورة آنفًا..ولنتجاوز ذلك إلى ما بعده ..ونتساءل : إذا كانت العين ترى المربع فارغًا لا شيء فيه، فما قيمة ما فيه حتى تصحّ المعادلة ؟ سلْ هذا أيَّ طفل في مبادئ التعلم وسوف يقول :قيمة المجهول =2، فيبقى السؤال الجوهري : كيف عرف الجواب وهو لا يبصره بعيني رأسه ؟!

إن الله جل ثناؤه في سياق الامتنان عليك أيها الإنسان بيّن منافذ المعرفة وطريق الاهتداء إلى معالجة المُدخلات إلى هذه المنافذ، فقال:{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } (النحل : 78 )، والذين ينكرون الغيب مطلقًا يُقال لهم :إن كان المراد بالغيب ما غاب عن الحواس، فإنكار الغيب =إنكارَ العقل، سواء بسواء ! وقد رأيت في مثال المعادلة أن إعمال الفكر هو الذي دلّ على قيمة المجهول في المربع، وهو شيء وراء المـُدركات الحسيّة.

وإن كان مرادهم: الغيب الذي يأتي به الدين خاصّة–أيًّا كان هذا الدين- فيقال هذا تحكّم يعبر عن موقف دوغمائي Dogmatic 1 تعسّفي لا مستند له من العقل إذا كنتم تدّعون الانتساب إلى هذا العقل.

لأن المعوّل في ذلك ليس هو كون الشيء دينيًا أو غير ديني، ولكن دلالة الحجة البرهانية التي دلّ عليها العقل، فحيث دلّ الدليل المعتبر على صحة ما وراء الحواس كان المصير إليه لازمًا في حكم العقل، وكان جحوده كفرًا بالعقل نفسه ، الذي يدعي الانتساب إليه ..

-فإن قيل: نحن نؤمن بما تدل عليه التجربة المخبريّة، ولسنا مضطرين لما وراء ذلك كما يقوله الماديون، قيل لهم : هذا كما لو قيل : العين حدّها أن تنظر إلى زاوية من الأفق لا تجاوزه إلى غيره، مع كون الأفق الرحيب داخلًا في مجالها البصري ..فهو من التقييد المبني على مجرد التحكّم والهوى دون أي دليل، وذلك أن ما دل عليه العقل لا يقتصر على ما كان نتاج تجربةٍ في المعامل، وإنما الاستدلال العقلي يستند إلى وجود خصيصةٍ تلازميّةٍ بين قضايا معلومة وأخرى مجهولة؛ ولهذا جاء الإسلام بقضية الإيمان بالغيب مسلّمةً من كل عيب يمكن أن يوجد في مصادر التلقي التي لا تعتمد على برهان صحيح ،وإنما على مجرد الظن والخرص والأوهام: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم : 23) فحارب لأجل ذلك الكهانة والخرافة والشعبذة، وأنكر الاعتماد على الإلهام أو الخطرات في باب اليقينيات.

-فإن جاء مسفسط وأراد إبطال المستند العقلي فقال مثلًا: ليس العقلُ دليلًا كافيًا للمعرفة أو اليقين، فيقال له: قد قوّضت كل قائم في بنيان العقل بنفسك، ونقضت الدعوى من أساسها؛ لأن هذا الحكم الذي زعمت: (ليس العقلُ دليلًا كافيًا للمعرفة مطلقًا ) =هو نفسه حكمٌ عقليّ، فلو أعملناه على مقولتك انتقضت وامتنع عليك أن تحكم على شيء بأي شيء !

ويمكن إدراك علاقة العقل بالغيب في الإسلام بتقسيم طرق تحصيل المعرفة إلى ثلاثة أقسام:
-ما يعرف بالنظر والاستدلال ..

-ما يكون مركوزًا ضرورة ً في العقل ولا يحتاج إلى استدلال لكونه من الحقائق الضرورية المغروسة في العقل من قِبل الخالق جل جلاله، وذلك كإدراك العقل أن عين الإنسان لا تكون أكبر من الإنسان بما فيها من عين ..

-وما يتلقى بالأخبار فمتعلّقه السمع، فهذا القسم إذا أمكن إقامة الدليل على صدق المخبِر فقد صار الخبر علمًا مثبتًا، سواء كان الخبر من عالمَ الشهادة أو من عالم الغيب .

ولما كان العقل لا يستقل بتحصيل المعارف على وجه التفصيل بل يدرك جملةً من الحقائق على وجه مجمل، كانت وظيفة الرسل هداية الإنسانية في أمرين :
أحدهما –تحصيل اليقين في باب الغيبيات، ودلالة العقل عليها من ثلاثة وجوه :

1-أنه اهتدى عن طريق دلائل النبوة، إلى تحقّق معنى النبوة في شخص هذا الإنسان–صلى الله عليه وسلم- ،فهو نبيّ ورسول من الله العليّ، فكان مقتضى ذلك عقلًا تصديقه في جميع أخبر، وإلا وقع التناقض العقلي .

2-وأن العقل دلّ في حالة الإسلام دون غيره، إما بمطابقة صريح المعقولات لصحيح المنقولات،فما يدل عليه الشرع يكون مدلولًا عليه بالعقل ، وفي كتاب الله الكثير من الدلائل العقلية ، والحجج البرهانية

وإما بالموافقة: بألا تأتي الشريعة بما يحكم العقل بامتناعه ولا بما فيه تناقض {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } (النساء : 82) ،

والثاني-تمثيل الهداية في التشريعات، وكما أن الله مختصٌّ بعلم الغيب: (الغيب المطلق) فهو وحده المختص كذلك بوضع التشريع المناسب لطبيعة ما خلق بحسب ظروفه وأحواله ، في كل زمان ومكان، مع تنزّهه سبحانه عن النقص، فكان وحيه كذلك منزهًا عن النقص.

-وإذا عرفت أن الإنسان ليس آلة صمّاء قوامها التعامل مع المحسوس المحض، بل هو مركّب من عقل وروح وجسد، والروح مع تسليم العقلاء بحقيقتها فهي إلى عالم المجهول أقرب، وإلى عالم الغيب أنسب.. والعقل إنما وظيفته اكتشاف ما وراء المعلوم المحسوس لاستنباط معانٍ خلف ما تدركه أدوات الحس المباشر، ثم تأملت في تطلع هذا الإنسان إلى استشراف ما يختبئ وراء العالم المشهود وتشوفه الملحّ إلى معرفة المجهول.. ومن ذلك :ما يكون في المستقبل - فإنك ستبصر في وجدانك حاسّة خاصّة تحاول التحديق دومًا إلى ما وراء الغيب، فلا ترتوي النفس في تطلعها إلا برسالةٍ سماوية تنبيها عن حقيقة الأمر، وتلبي فيها الحاجة الفطرية لذلك، وليست تثبت هذه الرسالة بالدعوى الخبرية المجردة، كأن يقول فلان: أنا نبي ، وكفى !، ولهذا جاء الإسلام دون غيره يعلن للإنسانية أنه دين مؤسس على أدلة يقينية تشفي غليل الباحث وتكفي العليل الحيران {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين }(البقرة : 111)

وهذا سيد قطب-رحمه الله- في التفاتةٍ منه رائقة، ينبّه إلى أن "الإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيّز المحدود، الذي تدركه الحواس أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس، وهي نقلة بعيدة الأثر في تصوّر الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون ما وراء من قوة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض، فليس من يعيش في الحيّز الصغير الذي تدركه حواسه، كمن يعش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته" 2

وفي كتابه: (خصائص التصوّر الإسلامي) يلحظ عمقًا معرفيا ًفي قضية الغيب من زاوية أخرى فيقول: " إن العقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول، ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها، وأشواقها الخفية إلى المجهول، المستتر وراء الحجب المسدلة .. كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعمّيات ليست عقيدة"3.

إن أدعياء العقل أو العلم حين قصروا العلم على المحسوسات فإنما أرادوا أن يتنصّلوا من حقيقة معنى الإنسان في فضائه الرحب الذي ذرأه الله عليه، من آفاقٍ ينظر بعينٍ فيها إلى المشهود، وبعينٍ أخرى إلى المجهول، مع أن هذا العالم هو في نفسه بكل مكوّناته بما فيها هذا الإنسان نفسه يأتلف من مواد غيبيّة، وأخرى مشهودة، فلا بد له من مرشدٍ يلبّي تطلّعه الفطري على وجه يقيني يروي النفس بالطمأنينة، ويُشربها معنى السكينة الحقّة، والمستندة إلى علم لا إلى وهم، فلهذا لم يكِلْه الله إلى نفسه حتى في عالم الشهادة الذي يظنّه مكشوفاً له من كل وجه وهو يجهل إلى حد كبير حقيقة نفسه الإنسانية بين جنبيه !، بل أرشده إلى نظام شامل كامل من التشريعات، لما تقدم من اختراق علم الله لحجب الزمان والمكان، وإحاطة علمه بطبيعة هذا الإنسان ونوازع النفس ومكامن الهوى فيه.

فأرسل إليه الرسل يرشدونه وفق قانون الابتلاء العام الذي أراده على وفق حكمته، وحمّل الرسل براهين صحة نبوتهم، وموثوقية رسالتهم: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (النساء : 165) وإذا كان الوحي في نفسه حقيقة غيبية، فهذا لا يعني أن النبي الحق أو الرسول الحق غير مطالبٍ بإقامة الدليل على صحة ما جاء به؛ إذْ لو كانت الحقائق هي ما كان مدركاً بالحواس وحدها، لكان هذا إبطالا لوظيفة العقل الذي أناط الله امتحان التكليف به، وإذا كان لازماً في صدق النبي أن يُحس الناس بنفس ما يُحس به النبي حال الوحي، لكان المعنى أن يكون كل الناس أنبياء، فبطل معنى الاتباع والابتلاء ..لعلك أبصرت الآن أن مدح الله لعباده المؤمنين بقوله {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة : 3) هو بمنزلة ما لو قال "الذين يحسنون استعمال عقولهم " ! فالإنسان والجان مخلوقان مركبان من مكوّني الغيب والشهادة، المعلوم والمجهول، فلم يمكن معرفة حقيقة النفس الإنسانية ما لها وما عليها وطبيعة خصائصها وما ينتظرها، إلا عن طريق مصدر معصوم، وهو الوحي الذي قام صدقُه على شهادة البراهين الحقّة، ويدلك على هذا المكوّن الغيبي الفطري ما عليه المنحرفون عن الوحي الإلهي، فلم يسلموا من الاعتماد على مناهلَ خرافية تتعلق بالغيب حتى أولئك الماديّون المنكرون لعالم الغيب، لابد لهم من سدِّ الحاجة الفطرية في ملء هذا الجانب الحيوي، فترى الداروينيين حين يتكلمون عن فرضيتّهم يضطرون إلى ذكر أمور متعلقة بالميتافيزيقا لا سبيل لهم بإثباتها إلا الخرص والترقيع والتزوير، وكذلك الملاحدة فإنهم إذا تحدثوا عن نشأة الكون جاءوا من ذلك بركام هائل من المادة الغيبية، ليسدوا بها فراغات ما يعتقدونه بمجرد الدعاوى المحضة، وقد قال الله يرد على أسلافهم وعلى أمثالهم: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا} (الكهف : 51).

وهذا التطلّع إلى إماطة أوشحة الغيب وكشف ما وراءها هو نفسه –لو تأملت – من الدلائل المشيرة بأصبع البصيرة إلى الله جل ثناؤه، لأن تشوّف النفس إلى الـ"مارواء" دالٌ على أن وراء إدراكها شيئًا ركز فيها هذا المعنى، وبعد أن عدد الفيلسوف كاريل جملة من التساؤلات الضالة عن جوابها، قال معبرًا عما يمكن تسميته متلازمة التعطّش المعرفي للمجهول : "وهناك أسئلة أخرى لا عداد لها يمكن أن تلقى في موضوعات تعتبر على غاية الأهميّة بالنسبة لنا، ولكنها ستبقى جميعاً بلا جواب..فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان مازال غير كافٍ، وأن معرفتنا بأنفسنا ما تزال بدائية، وعلى كل حال كان يبدو لأسلافنا أن لغز وجودنا، ومتاعبنا الأدبية، ولهفتنا على المجهول، وظاهرة علم ما وراء المادة، أكثر أهميةً من الآلام البدنيّة والأمراض، ومن ثم فقد اجتذبت دراسة الحياة الروحيّة والفلسفة أنظار رجالٍ عظماء أكثر مما اجتذبتهم دراسة الطب... فالعقل كما يقول برجسون بعجز طبيعي عن فهم الحياة 4 ". 

إن الملحد حين يسخر كثيرًا بأهل الدين لقولهم بوجود الله عز وجل، ويكابر طويلًا في زعم أن العالم موجود بذاته أزلًا ، يمكن أن يقال له على سبيل التنزل الجدلي:
-العالمَ فيه أجزاء مغيبة عن الحس ولا تبلغها آلات المراقبة :مقطوع بوجودها ،
-فماذا يضيرك أن يكون الله مِن هذا الغيب ، الذي لا تدركه الأبصار في الدنيا ولا الآلات ؟
لو تأملت ..ستكتشف أن جوهر مشكلته يكمن في إثبات شيء له وعي وحكمة (ليتخلص من تبعة المسؤولية ويكون عبدا للهوى) ..ولهذا تراه لا ضير عنده لو افترضت ملايين العوالم إذا كانت بلا وعي ولا إدراك ..
الملحد إذن :كائن يرفع شعار العقل ، وهو عدوٌّ لأصل ما زكا به العقل وكانت له به مصداقية، فليس للعقل قيمة يمكن عقلها ، إذا كان هو نفسه ابنَ العشواء
 

هوامش المقال
1- الدوغمائية :التعصب لفكرة والجمود عليها دون قبول نقاشها كأنها معصومة ولولم يكون عليها أي دليل .
2- (في ظلال القرآن 1 / 39) سيد قطب , ط: دار الشروق 1423 هـ - 2003 م
3- (خصائص التصور الإسلامي) سيد قطب ص 112,
4- الإنسان ذلك المجهول ، ألكسيس كاريل ، ص14 ، 16.
 

www.islamweb.net