نظرات في مرحلة الدعوة السرية

05/02/2019| إسلام ويب

اتفق أهل السير والتواريخ والكاتبون في تاريخ الدعوة المحمدية على أن الدعوة في مكة مرت بمرحلتين رئيستين:
مرحلة الدعوة السرية: وقد أخذت من عمر الدعوة المكية ثلاث سنوات عند أكثر المؤرخين والعلماء، ثم بعد ذلك جاء الأمر بالجهر بالدعوة مع قوله تعالى في سورة الشعراء {وأنذر عشيرتك الأقربين}، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معلنا بدعوته صارخا بها في وجوههم، وداعيا إلى دينه فانتهت مرحلة الدعوة السرية وبدأت مرحلة الدعوة الجهرية.

الحكمة من سرية الدعوة
وكان السبب لسرية الدعوة في بداياتها هو الحفاظ على الدعوة الناشئة وصيانتها من الهلاك والدمار، فقد كانت نبته تحتاج لرعاية وعناية حتى تقوى وتتجذر ويصعب على المعاندين اقتلاعها.

كانت الحكمة أن تكون الدعوة في أول أمرها سرا، يتلمس لها من يرجى منه الخير أو من لا يخاف عليها منه، لئلاً يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم ويثير حميتهم الجاهلية لآلهتهم وأصنامهم فتثور ثائرتهم على صاحب الدين الجديد.. خصوصا ومكة أنذاك مركز دين العرب، وموطن حجهم، ففيها بيت الله، وحولها كانت الأصنام والأوثان، وكان بمكة سدنة الكعبة والقائمون على هذه الأوثان والأصنام التي تقدسها قبائل العرب بجميع طوائفهم في ذلك الزمان؛ ولهذا كانت مكة وجهة قلوب العرب الدينية والثقافية والتجارية، ولها في قلوبهم تمام التقدير والتقديس والحظوة والمكانة، وهو ما لن يفرط فيه أهل مكة وكفار قريش بل سيدافعون عنه دفاع المستميت.

فكانت الحكمة ألا يعلن ويجهر بالدعوة تأجيلا للمواجهة المحتومة حتى يقوى ساق نبتة الإسلام، وتتعمق جذوها وتقوى على مواجهة رياح الكفر العاتية وجبروت المنكرين المنتظر والمتأكد، وحتى يستطيع أصحابها الصبر والصمود أمام هذه الابتلاءات القادمة لا محالة.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ فجر الرسالة، حين أنزل الله عليه {يايها المدثر قم فأنذر} يتصفح الناس ويتخير من بينهم الأقرب لتصديقه والأرجى لقبول دعوته، ومن يطمع أن يوافقه على دينه وعقيدته من دون أن يجر على نفسه ودينه وأتباعه ويلات لا طاقة لهم بها في تلك البدايات.

فبدأ عليه السلام بأقرب الناس منه وأحبهم إليه وألصقهم به، فدعا آل بيته وأصدقاءه، ممن يعرفهم ويعرفونه، يَعرِفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بالصدق والصلاح، فكانت زوجه خديجة، ومولاه زيد بن حارثة، وربيبه علي بن أبي طالب، كلهم من داخل بيته، ثم أتى بعد ذلك بناته زينب ورقية وفاطمة وأم كلثوم، فهن بناته وأعلم بصدق أبيهم وأخلاقه وصفاته.. وقد آمنوا به جميعا بفضل الله؛ فاكتسى هذا البيت أبهى حُلل الإيمان، وأضاء قبسُ نور التصديق في سائر أركانه.

وأما أول من توجه إليه فكره من خارج بيته، فكان أقرب الأخلاء، وأوفى الرفقاء، وأحب الأصدقاء أبو بكر رضي الله عنه.. وقد صدقت فراسته فيهم فآمنوا جميعا وكانوا النواة الأولى لهذا الدين وتلك الدعوة ..

ثم سار الأمر على هذ االنحو وسار المؤمنون على هذا النهج، فبدأت عجلة الدعوة تدور، وبدأ عداد المنتسبين لدين الله يضيف أرقاما على أرقامه وإن كان تحركا بطيئا.

كان لإيمان أبي بكر كأول من آمن من الرجال، وفي أول لحظات عمر الدعوة، ومع أول عرض للنبي عليه دون تردد ولا تلعثم، أثره البالغ في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لإيمانه أيضا أثره الهائل على الدعوة، فقد كان أبو بكر أحد أبرز رجالات وأشراف وأحرار مكة، كان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وتاجرًا معروفًا، ورجلًا مألوفًا ومحببًا. وكانت الطبقة المثقفة ترتاد مجلسه لتنهل علمًا لا تجده عند غيره، فكان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيمًا؛ ولذلك عندما انضم للدعوة النبوية السرية استجاب له صفوة الصفوة من رجالات العرب، على رأسهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم ـ فكانوا أول ثمار الصديق في الاستجابة لدعوته في نصر الدين الجديد.

تميزت هذه المرحلة بالكتمان الشديد حتى من أقرب الناس، واستمر النبي الكريم في الدعوة السرية يستقطب الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه بصورة سرية تامة بعد إقناعهم بالإسلام، وكذلك انطلق أصحابه يبشرون بالدين الجديد في حذر كامل وحيطة تامة، فقد كانت الأوامر النبوية لأتباعه واضحة وصارمة بالاحتراز الشديد وألا يخاطبوا إلا من يثقون به ويأمنون شره.

وسارع كل واحد من هؤلاء المسلمين الجدد ـ ممن له قدرة ـ إلى دعوة من يطمئن إليه ويثق به، فأسلم على أيديهم جماعة من الصحابة، وهم من جميع بطون قريش، كانوا من أوائل المؤمنين وعرفوا فيما بعد بالسابقين الأولين الذين جاء ذكرهم في قوله تعالى: {والسابقون الأَولون مِن المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضُوا عنه} (التوبة:100).

دار الأرقم
كان الوحي يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن تتابع، وكانت الأيام تمر فيزيد معها أعداد المتابعين له والمؤمنين بدينه ودعوته، وكان لابد من تبليغ المؤمنين تعاليم دينهم، وأوامر ربهم، وكيفيات عباداتهم وعلى رأسها الصلاة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى تربيتهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم، تبليغا للدعوة، وإعدادا لهم وتجهيزا لما يستقبل من أحداث.

وعندما ضاق بيت خديجة على الأتباع، اختار النبي صلوات الله وسلامه عليه "دار الأرقم بن أبي الأرقم" ليلتقي فيها بأصحابه، وكان السبب في اختيار دار الأرقم: أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، وهو من بني مخزوم، وقبيلة مخزوم هي حاملة لواء الحرب ضد بني هاشم، وأن الأرقم كان فتى عند إسلامه (16 عامًا)، ويوم أن تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي، فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه أو بيته هو نفسه.

ومن ذلك الوقت أصبحت دار الأرقم مركزًا للدعوة يتجمع فيها المسلمون ويتلقون مع رسول الله كل جديد من الوحي، ويستمعون له وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم على عينه، وأصبح هذا الجمع هو نواة الدعوة النبوية للإنسانية جمعاء، وقد ذكر أهل السير أنهم كانوا أكثر من أربعين نفراً..

وأما مدة الدعوة السرية فقد ذكر أكثر أهل السير أنها كانت ثلاث سنوات على المشهور.

قريش والدعوة السرية
 وكون الدعوة سرية في هذه المرحلة لا يعني أن خبرها لم يبلغ قريشاً، فقد بلغها إلا أنها لم تكترث لها، ولم تعرها اهتماماً في بداية الأمر، ظناً منها أن محمداً أحد أولئك الحنفاء الذين يتكلمون في الألوهية، وعبادة الله وحده، مما ورثوه من الحنيفية دين إبراهيم - عليه السلام -، كما صنع أمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل وأشباههم.

ولما بدأ عود الدعوة يشتد ويقوى وخاف المشركون من ذيوع خبرها وامتداد أثرها، أخذوا يرقبون -على مر الأيام- أمرها ومصيرها، إلى أن أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعلان والمجاهرة بدعوته فعند ذلك وقفوا في سبيلها وناصبوها العداء، وبدأت مرحلة جديدة سميت في تاريخ الدعوة بالدعوة الجهرية أو العلنية.

وختام القول: فإن دعوة الإسلام استدعت في بداية أمرها أن تكون دعوة سرية، ريثما يتمكن أمرها، لتنطلق معلنة رسالتها الخاتمة، تلك الرسالة القائمة على إخراج الناس من الغي والضلال إلى الهدى والرشاد، لتكون عزاً ونصراً للمؤمنين ورحمة للعالمين وصدق الله القائل: {قل بفَضل اللَّه وبرحمته فَبذَلك فليفرحوا هُو خَير مما يجمعون} (يونس:58).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ سيرة ابن هشام
ـ السيرة النبوية للصلابي
ـ فقه السيرة للغزالي
ـ مراجع أخرى

www.islamweb.net