الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

قال الله: وما دعاء الكافرين إلا في ضلال. وعندما يهتدي شخص كافر للإسلام كثيرا ما يقول كنت أدعو الله ليهديني لدين الحق. فهل يقبل الله دعاءه حال كفره عندما أراد الهداية . أرجو الإسهاب في توضيح الإجابة؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقوله تعالى: وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ. قد ورد في موضعين من القرآن الكريم:

الأول: قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ {الرعد:14}

جاء في كتاب زاد المسير: قوله تعالى {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} فيه قولان:

أحدهما: وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله. رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثاني: وما عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسران وباطل. قاله مقاتل. انتهى

وهذا القول الثاني ظاهر من السياق، فالآية وردت في ذم دعاء الكافرين لمعبوداتهم الباطلة ولم ترد في دعائهم لله عز وجل.

وهذا ما ذهب إليه الحافظ ابن كثير، فقال رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضا وإما متناولا له من بعد كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلا للشرب، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا قال { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }. انتهى.

وأما الموضع الثاني فقوله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب * قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر:49 ، 50]

وظاهر السياق أن ذلك في الآخرة. إلا أن بعض العلماء نظر إلى عموم اللفظ في قوله تعالى {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} فقال بعمومه في الدنيا والآخرة.

قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: "وَالْمَعْنَى: أَنَّ دُعَاءَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُقْتَضٍ عُمُومَ دُعَائِهِمْ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ مَنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَيَقْتَضِي أَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا لِأَنَّ عُمُومَ الذَّوَاتِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.

وَأَمَّا مَا يُوهِمُ اسْتِجَابَةَ دُعَاءِ الْكَافِرِينَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها [الْأَنْعَام: 63، 64] وَقَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يُونُس: 22، 23]، فَظَاهِرٌ أَنَّ هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِجَابَةِ كَرَامَةٍ وَلَكِنَّهَا لِتَسْجِيلِ كَفْرِهِمْ وَنُكْرَانِهِمْ.

وَقَدْ يُتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ يَدْعُوَ الْكَافِرُ فَيَقَعُ مَا طَلَبَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُصَادَفَةِ دُعَائِهِ وَقْتَ إِجَابَةِ دُعَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَيْفَ يُسْتَجَابُ دُعَاءُ الْكَافِرِ وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِبْعَادُ اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَرَامَ وَيَلْبَسُ الْحَرَامَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ». وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ اللَّهُ: فَلَمَّا اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدَّرَ نَجَاتَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُوا أَوْ لِأَنَّ دُعَاءَهُمْ صَادَفَ دُعَاءَ بعض الْمُؤمنِينَ. انتهى.

وذهب علماء آخرون إلى عدم شمول الآية لدعاء الكافر في الدنيا.

قال الآلوسي في روح المعاني: واستدل بها مطلقا من قال : إن دعاء الكافر لا يستجاب وأنه لا يمكَّن من الخروج في الاستسقاء، والحق أن الآية في دعاء الكفار يوم القيامة وأن الكافر قد يقع في الدنيا ما يدعو به ويطلبه من الله تعالى أثر دعائه كما يشهد بذلك آيات كثيرة، وأما أنه هل يقال لذلك إجابة أم لا فبحث لا جدوى له. انتهى.

وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم وقد يجيب الله دعاء الكفار فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا. انتهى.

وقال أيضا: وأما إجابة السائلين فعام فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافرا. مجموع الفتاوى.

وقال ابن القيم: فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه ولا محبا له ولا راضيا بفعله فإنه يجيب البر والفاجر والمؤمن والكافر. اهـ

ومما سبق يتضح لك أن الراجح من كلام أهل العلم هو عدم تعلق الآيتين بإجابة دعاء الكافر في الدنيا، وأن الله سبحانه قد يجيب دعوة الكافر، إلا أن ذلك ليس هو الأصل.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني