الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحج عند اليهود والنصارى والعرب قبل الإسلام

السؤال

الآية الموجودة فى سورة البقرة: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس:فيها أمر بالإفاضة من مزدلفة وليس كما كانت تفعل قريش من الإفاضة من عرفة، فهل كانت قريش تفعل مناسك الحج كما يفعلها المسلمون اليوم ـ من لبس إحرام، وإحرام من الميقات، وسعي وطواف ووقوف بعرفة ومنى والجمرات؟ من علم قريشا ذلك؟ فهل توارثوا ذلك عن إبراهيم عليه السلام ثم أشركوا بعبادة الأوثان: ليقربونا إلى الله زلفى. كما قال المشركون؟ ولماذا كان المشركون يأتون البيوت بعد الحج من ظهورها؟. وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاء وتصدية. هل كانوا يصلون فى الجاهلية عند البيت فقط؟ أم كانوا يطوفون به؟ وهل طوافهم كان مثل طواف المسلمين الآن سبعة أشواط ويستلمون الحجر الأسود؟.وهل كان المشركون يقفون بعرفة ـ أصلا ـ يوم التاسع حتى تقول الآيات خالفوهم فى الإفاضة؟.لماذا الآيات تتعرض ـ فقط ـ لمخالفة المشركين فى بعض مناسك الحج؟ ولماذا لم يذكر أى شىء عن حج بقايا أهل الكتاب؟ أليس موسى وعيسى عليهما السلام لهما نفس رسالة إبراهيم عليه السلام؟ أى شملهم الأمر بحج البيت، فقبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك يهود ونصارى لابد أنهم كانوا يحجون، فهل كانت لهم مناسك فى مكة وعرفة ومزدلفة ومنى؟ أم أنهم حرفوا المكان وكانوا يحجون فى مكان آخر؟ حتى يكون هذا الجزء من السؤال واضحا: فالآيات تعرضت لمخالفة قريش فى بعض المناسك، فلماذا لم تتعرض لحج أهل الكتب إما باقرار بعض مناسكهم أو مخالفتها؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {البقرة: 199}.

ليس فيها الأمر بالإفاضة من مزدلفة بدل عرفات، بل العكس هو الصحيح، ففيها الأمر بالإفاضة من عرفات وليس من مزدلفة ـ كما كانت تفعل قريش ـ روى البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قالت: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفَ بِهَا ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ.

وقريش وسائر العرب كانوا يحجون قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان عندهم شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام إلا أنهم غيروا كثيرا منها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أول من غير دين إبراهيم ـ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة. رواه الطبراني، وصححه الألباني.

ومن ذلك شعائر الحج كالتلبية، حيث كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا واحدا هو لك تملكه وما ملك ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ ومن جملة ما غيروه ـ أيضا ـ أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، كما في البخاري ومسلم عن عروة: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ ـ وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ ـ وَكَانَتْ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا. هـ.

وأما: لماذا كانوا يأتون البيوت من ظهورها؟ فقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وَبَيَّنَ الزُّهْرِيُّ السَّبَب فِي صَنِيعهمْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ نَاس مِنْ الْأَنْصَار إِذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنهمْ وَبَيْن السَّمَاء شَيْء فَكَانَ الرَّجُل إِذَا أَهَلَّ فَبَدَتْ لَهُ حَاجَة فِي بَيْته لَمْ يَدْخُل مِنْ الْبَاب مِنْ أَجْل السَّقْف أَنْ يَحُول بَيْنه وَبَيْن السَّمَاء. هـ.

وكفار قريش لم يكونوا يصلون، وغاية ما عندهم أنهم كانوا يصفقون ويصفرون في الحرم، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً، قال القرطبي ـ رحمه الله: أي لم يكونوا يُصلُّون، ولكنهم كانوا يصفِّرون ويُصفِّقون مكان الصلاة.

وأما اليهود والنصارى: فإنهم لم يكونوا يحجون البيت الحرام، وعيسى وموسى عليهما السلام وإن كان دينهما هو دين إبراهيم ـ الإسلام ـ وهو دين جميع الأنبياء ـ إلا أن شريعتهما تختلف، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا { المائد: 48 }.

ولا ندري هل كان في شريعتهم الحج أم لا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: سائر أهل الملل من اليهود والنصارى لا يحجون، وإن كانوا قد يصلون، وإنما يحج المسلمون خاصة. هـ.

واليهود كان لهم حج خاص بهم وكذا النصارى، كما قال الطاهر ابن عاشور ـ رحمه الله ـ في تفسيره التحرير والتنوير: وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة، وأشهر الأمم في ذلك اليهود، فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل ـ أورشليم ـ وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك، فإن القرابين لا تصح إلاّ هناك، ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح، واتخذت النصارى زيارات كثيرة حجاً، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة ـ أورشليم ـ وكذا زيارة قبر ـ ماربولس ـ وقبر ـ ماربطرْس ـ برومة. هـ.

وعيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان سيحج البيت الحرام على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث: لَيُهِلَّنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ لَيُثَنِّيَهُمَا جَمِيعًا. رواه أحمد.

هذا، ومما يجدر التنبيه له: أن الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحجون بيت الله الحرام، ولكن ذلك لم يكن مشروعا لأتباعهم ـ فيما يبدو ـ وراجع الفتوى رقم: 44511.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني