الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الستر على المسلم ..استحباب أم وجوب أم حرمة

السؤال

قيل إن ستر المسلم سنة فكيف يكون سنة وليس بواجب إذا كان كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وأيضا عرضه وليس هناك أصح من القرآن حيث يقول الله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ـ وإذا كان الله سيفضح من فضح مسلما يوم القيامة على رؤوس الأشهاد؟ لأنه لو كان هذا الكلام صحيحا لكان معنى ذلك أن الله لا يهدي الإنسان بشرعه لما هو خير له.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الفقهاء لم يتفقوا على القول باستحباب الستر، بل منهم من قال بوجوبه، وإن لم يكن هذا قول أكثرهم، جاء في الموسوعة الفقهية: وَمِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا: أَنَّ السَّتْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ لِمَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالأْذَى وَالْفَسَادِ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَال فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهَذَا السَّتْرُ فِي غَيْرِ الْمُشْتَهِرِينَ، وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَعِظْهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَلاَ تَفْضَحْهُ. انتهى.

وفيها أيضا: وَكَوْنُ التَّرْكِ ـ أي ترك الرفع إلى الحاكم ـ مَنْدُوبًا هُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْمَوَّاقِ: سَتْرُ الإْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَاجِبٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَرْكُ الرَّفْعِ وَاجِبًا، وَقَال صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا وَقَعَ فِي مَجْلِسٍ مِمَّا يُكْرَهُ إِفْشَاؤُهُ إِنْ لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ يَجِبُ كِتْمَانُهُ، وَإِنْ خَالَفَ الشَّرْعَ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، كَالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَكَ الْخِيَارُ، وَالسَّتْرُ أَفْضَل كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ ضَرَرٌ لأِحَدٍ مَالِيٌّ أو بَدَنِيٌّ، أَو حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْقِصَاصِ وَالتَّضْمِينِ، فَعَلَيْكَ الإْعْلاَمُ إِنْ جَهِل، وَالشَّهَادَةُ إِنْ طَلَبَ، وَإِلاَّ فَالْكَتْمُ. انتهى.

على أن القائلين بالاستحباب اعتمدوا فيما قرروه على أدلة شرعية من تصرف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولا يرد عليهم ما ورد في السؤال لأن العاصي هو الذي سلط على عرضه بارتكاب المعصية، وليس رفع أمره للحاكم ليقيم الحد عليه من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا إذا كان المقصد زجر العاصي وردع من يهم بمثل معصيته، والآية نزلت في من قذفوا أم المؤمنين ورموها بما برأها الله منه كما هو معلوم، فمثل هذا هو الذي يستحق هذا الوعيد وهو من يقذف المسلمين بما برأهم الله منه أو يفعل مثل فعله مما يدل على حبه لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، قال القاسمي رحمه الله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ـ أي تنتشر الخصلة المفرطة في القبح، وهي الفرية والرمي بالزنى ونحوه كاللواط وما عظم فحشه فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا أي من الحدّ وغيره، مما يتفق من البلايا الدنيوية وَالْآخِرَةِ أي من عذاب النار وَاللَّهُ يَعْلَمُ أي ما في القلوب من الأسرار والضمائر وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة، وهو معاقبه عليها. انتهى.

وقال في المبدع ذاكرا وجه القول بالاستحباب وأن الوجوب قول بعض الحنابلة: وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى أُبِيحَ إِقَامَتُهَا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ وَأَصْحَابَهُ وَالْجَارُودَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، أَقَامُوا الشَّهَادَةَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَمْ تُسْتَحَبَّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاسْتَحَبَّ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو الْفَرَجِ وَالتَّرْغِيبُ كَالْمُؤَلِّفِ، تَرَكَهُ لِلتَّرْغِيبِ فِي السَّتْرِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي آخِرِ الرِّعَايَةِ مِنْ وُجُوبِ الْإِغْضَاءِ عَمَّنْ سَتَرَ الْمَعْصِيَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخَلَّالِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيمَنْ عُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ لَا يُسْتَرُ عَلَيْهِ. انتهى.

فالمسألة إذا محل بحث وخلاف للعلماء، وللقول بالوجوب حظه من النظر، لكن القول بالاستحباب ليس قولا منكرا، بل القائلون به من أعيان علماء الإسلام وأعلمهم بمقاصد الشريعة، فلا ينبغي التهجم على إنكار مذاهب العلماء بالرأي المجرد، فهذه المسألة لا تحتمل هذا التهويل وإطلاق هذه العبارات الشديدة، كما ننبه أن محل مشروعية الستر ما لم يتعلق الذنب بحق مسلم تعرض لظلم، قال أبو محمد ابن حزم في المحلى: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِإِبَاحَةِ السَّتْرِ عَلَى مُسْلِمٍ فِي ظُلْمٍ ظَلَمَ بِهِ مُسْلِمًا كَمَنْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ بِحِرَابَةٍ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ، أَوْ غَصَبَهُ امْرَأَتَهُ، أَوْ سَرَقَ حُرًّا، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَهَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقُومَ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ الظُّلَامَاتِ إلَى أَهْلِهَا؟. انتهى.

كما أن المجاهر بالمعصية الذي لا يردعه إلا رفع أمره للحاكم وعقوبته بالعقوبة اللائقة بمثله المشروع رفع أمره وعدم ستره كما مر ذكره تحقيقا للمصلحة العامة، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فالستر قد يكون مأموراً به محموداً، وقد يكون حراماً، فإذا رأينا شخصاً على معصية، وهو رجلٌ شرير منهمك في المعاصي، لا يزيده الستر إلا طغياناً، فإننا لا نستره، بل نبلغ عنه حتى يُردع ردعاً يحصل به المقصود. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني