الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بيان جواز ادخار المال وشروط ذلك

السؤال

هل ثبت أن معاوية بن أبي سفيان كان يكنز الذهب والفضة؟
وكيف ننفي ذلك؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الكنز المحرم المتوعد عليه في آية التوبة وبعض الأحاديث المراد به ما لم تؤد زكاته، أما ما أديت زكاته فليس بكنز سواء كثر أم قلَّ، كما قال ابن عمر وغيره: وما أديت زكاته ليس بكنز وإن كثر، وإن كانت تحت سبع أرضين. ذكره ابن كثير في تفسيره.

ومجرد الادخار للحاجة ليس بمذموم في الشرع، ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك.
وفي الصحيحين من حديث عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلمَ: كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ, وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ. رواه البخاري ومسلم.

قال ابن حجر: قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد: فِي الْحَدِيث جَوَاز الِادِّخَار لِلْأَهْلِ قُوت سَنَة، وَفِي السِّيَاق مَا يُؤْخَذ مِنْهُ الْجَمْع بَيْنه وَبَيْن حَدِيث " كَانَ لَا يَدَّخِر شَيْئًا لِغَدٍ " فَيُحْمَل عَلَى الِادِّخَار لِنَفْسِهِ, وَحَدِيث الْبَاب عَلَى الِادِّخَار لِغَيْرِهِ, وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُشَارَكَة، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ الْمَقْصِد بِالِادِّخَارِ دُونه حَتَّى لَوْ لَمْ يُوجَدُوا لَمْ يَدَّخِر. اهـ. وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى الرَّدّ عَلَى الطَّبَرِيِّ حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَاز الِادِّخَار مُطْلَقًا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ, وَفِي الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخ تَقْيِيد بِالسَّنَةِ اِتِّبَاعًا لِلْخَبَرِ الْوَارِد, لَكِنْ اِسْتِدْلَال الطَّبَرِيِّ قَوِيّ, بَلْ التَّقْيِيد بِالسَّنَةِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ ضَرُورَة الْوَاقِع لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُدَّخِر لَمْ يَكُنْ يَحْصُل إِلَّا مِنْ السَّنَة إِلَى السَّنَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِمَّا تَمْرًا وَإِمَّا شَعِيرًا, فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا يُدَّخَر كَانَ لَا يَحْصُل إِلَّا مِنْ سَنَتَيْنِ إِلَى سَنَتَيْنِ لَاقْتَضَى الْحَال جَوَاز الِادِّخَار لِأَجْلِ ذَلِكَ ... وَاخْتُلِفَ فِي جَوَاز اِدِّخَار الْقُوت لِمَنْ يَشْتَرِيه مِنْ السُّوق, قَالَ عِيَاض: أَجَازَهُ قَوْم وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيث, وَلَا حُجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ مُغَلٍّ الْأَرْض, وَمَنَعَهُ قَوْم إِلَّا إِنْ كَانَ لَا يَضُرّ بِالسِّعْر, وَهُوَ مُتَّجِه إِرْفَاقًا بِالنَّاسِ, ثُمَّ مَحِلّ هَذَا الِاخْتِلَاف إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَال الضِّيق, وَإِلَّا فَلَا يَجُوز الِادِّخَار فِي تِلْكَ الْحَالَة أَصْلًا. اهـ.

وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية والمنح المرعية بعد ذكره لهذا الحديث قال: وفيه جواز ادخار قوت سنة، ولا يقال هذا من طول الأمل؛ لأن الإعداد للحاجة مستحسن شرعًا وعقلًا. اهـ

ويدل لمشروعية الادخار للحاجة كذلك ما في الصحيحين عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله, إن من توبتي: أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.

قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة: فيه دليل على أن إمساك ما يحتاج إليه من المال أولى من إخراج كله في الصدقة, وقد قسموا ذلك بحسب أخلاق الإنسان, فإن كان لا يصبر على الإضاقة كره له أن يتصدق بكل ماله, وإن كان ممن يصبر: لم يكره. انتهى.

ومعاوية - رضي الله عنه - كان كثير الإنفاق, والبذل, والحلم, والصفح, وقد ساس الناس سياسة حسنة, فقد قال الذهبي ـ رحمه الله -: ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم, وما هو ببريء من الهَنَات, والله يعفو عنه, وحسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم ـ هو ثغرـ فيضبطه ويقوم به أتم قيام. ويرضى الناس بسخائه وحلمه... فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله. وفرط حلمه. وسعة نفسه. وقوة دهائه ورأيه. اهـ.

وقال ابن كثير ـ رحمه الله: وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلًا بالأمر ... والجهاد في بلاد العدو قائم, وكلمة الله عالية, والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض, والمسلمون معه في راحة وعدل, وصفح وعفو وقال: كان حليمًا وقورًا, رئيسًا, سيدًا في الناس, كريمًا, عادلًا, شهمًا. اهـ

ولعل السائل اطلع على ما يحكى عن أبي ذر - رضي الله عنه - في الكنز, وقد خالفه جمهور الصحب والعلماء من بعدهم, وراجع للتفصيل في ذلك الفتوى رقم: 43158

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني