الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أسباب عدم التأثر بقراءة آيات الله وسبل استجلاب الخشوع عند التلاوة

السؤال

كيف تأثر كفار قريش بالقرآن وقد كانوا كافرين؟
وكيف تأثر به خليفتنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما سمعه، فذهب كي يسلم، ونحن مسلمون- حمدا لله- لم لا نتأثر، مع أنه يبدو لي أن الأمر ليس له علاقة بقسوة القلب؟!

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن القرآن له تأثير قوي على من يفهم لغته، فيَوْجل قلبه، ويتأثر منه، كما وصفه الباري سبحانه بقوله تعالى: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {الحشر:21}.

فمن سمعه من الكفار غير معاند، ولا متكبر، فقد يحصل له التأثر به، ويسلم كما ثبت عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ. قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ. رواه البخاري.

وقد حصل مثل هذا لقيس بن عاصم يوم تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فقال: إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وقصة قيس هذه ذكرها القرطبي في تفسيره.
وأما نحن المسلمين فتأثرنا بالقرآن يمكن حصوله اذا استمعنا له، وتدبرناه بقلوب حاضرة، موقنة بصدق ما فيه من الوعد، والوعيد، والأخبار، والأحكام؛ لأن الله تعالى يقول في شأن التأثر بالقرآن: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {الحشر:21}.

وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {الأنفال:2}.

وأما صاحب قسوة القلب فيخشى عليه من الحرمان من الاهتداء بالقرآن، والتأثر، كما قال سبحانه: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ {الزمر:22ـ23}.

وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16].

قال ابن كثير: نهى اللّه تعالى المؤمنين، أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم، من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد، وبدلوا كتاب اللّه الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد. اهـ.

وقال ابن كثير أيضا في تفسير آية الزمر: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف. ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه:

أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نَغَمات لأبيات، من أصوات القَيْنات.

الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ـ وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ـ أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين، بصيرين بمعانيها، فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.

الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله.

لم يكونوا يتصارخُون، ولا يتكلّفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون، والأدب، والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالقِدح المُعَلّى في الدنيا والآخرة. انتهى.

وقد حضنا الله عز وجل على تدبر القرآن في أكثر من موضع، فقال جل من قائل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً {النساء:82}.

وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ {صّ:29}.

واللام التي في قوله تعالى: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ـ تدل على أن القرآن ما نزل لمجرد تلاوة حروفه فقط، وإنما نزل من أجل التدبر في معانيه، والتفكر في مضمونها لأخذ العبر من قصصه، وللاستفادة من مواعظه، وامتثال أمره، والكف عن نهيه.

قال الطبري في تفسيره: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وهذا القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد مبارك ليدبروا آياته، يقول: ليتدبروا حجج الله التي فيه، وما شرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به. اهـ.

وقد أكد أهل العلم على أهمية تدبر القرآن عند تلاوته.

فقال النووي رحمه الله: فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال الله عز وجل: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ ـ وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ ـ والأحاديث فيه كثيرة، وأقاويل السلف فيه مشهورة، وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح، وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة، ومات جماعة حال القراءة. اهـ.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيخرج ناس يقرؤون القرآن دون تدبر، فقال صلى الله عليه وسلم: سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن. رواه الطبراني، وحسنه الألباني.

قال المناوي في فيض القدير في شرح هذا الحديث: أي يسلقونه بألسنتهم من غير تدبر لمعانيه، ولا تأمل في أحكامه، بل يمر على ألسنتهم كما يمر اللبن المشروب عليها بسرعة. اهـ.
و قال ابن القيم -رحمه الله- عند تفسيره لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ {ق:37}: [وقوله: (أو ألقى السمع ) أي وجه سمعه، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام، وقوله: (وهو شهيد) أي شاهد القلب حاضر غير غائب.

قال ابن قتيبة: استمع كتاب الله وهو شاهد القلب، والفهم ليس بغافل، ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب، وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله، فاذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر]. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني