الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

السؤال

أنا شاب سريع الغضب، وعندما أغضب أسب وألعن وإلى غير ذلك من الصفات الذميمة، وأعرف أن الطب النبوي أمر من هو مثلي بأن لا يغضب، ولكن في حالة كون الغضبة لله أرى أني لا أستطيع دفع المنكر إلا بالبذاءة، وهذا لن يدفعه، فهل يجوز لي عدم النهي عن المنكر بذلك؟
وسؤال آخر: في خطبة جمعة قال الإمام ذات مرة: كيف يسب دين الله أمامك؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله، من المسلمين أنفسهم عندما يغضبون يسبون دينهم لبعضهم البعض، وأنت تقف ساكتًا! ولم ينوه على الفعل المفروض أن يؤخذ. فما هو الفعل الصحيح تجاه ذلك في حالة أن غالب من يفعل ذلك من ذوي المؤهل الدراسي الضعيف (سائقون وغيرهم) أو عوام الجهال، والذي أرى أن اللين معهم (وفي حالة غضبهم أيضا) لن يؤتي شيئًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الغضب للحق محمود في موضعه المناسب له، وقد ترجم البخاري في صحيح (باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله)، وذكر فيه: وقال الله: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: 73]. وأسند فيه أحاديث، منها: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي البيت قرام فيه صور، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه ... ، وعن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: أتى رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان؛ مما يطيل بنا. قال: فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ!

وأما السب واللعن ونحوها من البذاءات: فالأصل أنها محرمة لا تجوز، وليست هي من أخلاق المؤمن، كما في الحديث: ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء. أخرجه أحمد، والترمذي، وصححه الألباني. ودعوى الغضب لله ليست مسوغًا للمرء أن يلغ في حمأة اللعن والبذاءة.

وأما قولك: (أرى أني لا أستطيع دفع المنكر إلا بالبذاءة، وهذا لن يدفعه، فهل يجوز لي عدم النهي عن المنكر بذلك؟): فاعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجلّ الواجبات؛ قال الغزالي: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه، وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد. اهـ.

وفي الحديث: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». أخرجه مسلم. قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم (فليغيره) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم؛ كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ... ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية؛ إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين، كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، كمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. اهـ. من شرح صحيح مسلم. وقد بينا أدلة وجوبه وبعض أحكامه في الفتوى رقم: 9358.
فأنت مأمور شرعًا بإنكار المنكر، ومأمور كذلك بالكف عن البذاءة، وليس أحد الأمرين مُسقطًا للآخر؛ إذ لا تعارض بينهما أصلًا إلا في ظنك فقط، وما يدريك لعل هذا من حيل الشيطان لتمضي في البذاءة واللعان، أو تتقاعس عن إنكار المنكر. فعليك أن تنفض عن قلبك غبار هذه الوسوسة، وأن تستعين بالله -جل وعلا-، وتجاهد نفسك في البعد عن البذاءة واللعان، وأن تنهى عن المنكر قدر وسعك.

واعلم أن الحلم والرفق من أهم السمات التي يلزم الناصح التحلي بها؛ قال ابن تيمية: فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحبًا في هذه الأحوال؛ وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف، ورووه مرفوعًا، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه؛ حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه". اهـ.

وأما عن سؤالك الآخر: ففي ضمن ما تقدم جواب عنه، وانظر المزيد في آداب النصيحة في الفتوى رقم: 13288، وانظر كذلك في ضوابط تغيير المنكر الفتوى رقم: 124424.

وراجع في علاج الغضب الفتوى رقم: 58964، والفتوى رقم: 76302.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني