الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أهمية التدرج في الدعوة إلى الله وكيفية تناول المسائل الخلافية

السؤال

أحسن الله إليكم، كيف ندعو إلى الإسلام عندما نتحدث عن مسألة اجتهادية؛ هل نختار ما رجحنا أم نتكلم عن المذاهب؟ وقد يكون في المذاهب أقوال متضادة -كمثل قتل المسلم بالكافر-.
أفيدونا أفادكم الله.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فنظن أن مراد السائل دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، فإن كان كذلك؛ فينبغي أن تكون البداية بالكلام عن قضايا التوحيد والإيمان، ثم الكلام عن أركان الإسلام، ثم تناول مسائل التدين بالتدرج من الأهم إلى المهم، ومن صغار العلم إلى كباره، مراعاة لمبدأ الربانية في التعليم، قال البخاري في صحيحه: قال ابن عباس: {كونوا ربانيين}: حلماء فقهاء. ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره. اهـ. قال ابن حجر في (هدي الساري): أي: بالتدريج. اهـ.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، روي معناه عن ابن عباس. اهـ.
وقال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): قوله "إن العلماء ورثة الأنبياء" هذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم ... وفيه تنبيه لأهل العلم على تربية الأمة كما يربي الوالد ولده، فيربونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون، كما يفعل الأب بولده الطفل في إيصال الغذاء إليه، فإن أرواح البشر بالنسبة إلى الأنبياء والرسل كالأطفال بالنسبة إلى آبائهم، بل دون هذه النسبة بكثير. اهـ.
وقال ابن هبيرة في (الإفصاح عن معاني الصحاح): العالم ينبغي أن يربي الناس بالعلم تربية، ويغذيهم إياه تغذية، فيربيهم بصغار العلم قبل كباره، فيكون ربانيًّا كما جاء في الحديث الآخر، ويوضح ذلك أن الطفل لما كانت معدته لا تقوى على هضم الأطعمة الغليظة يسر الله له رزقه من ثدي أمه مدة طويلة يتدرج فيها إلى تناوله الأغذية الباقية على جهتها .. فكذلك ينبغي للعالم أن يرفق بالناس في التعليم، فلا يعرض عقولهم لسماع ما تنكره من قبل أن يتيقن قوة عقولهم لدفع الشبهة وقبول الحجة، والكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وإلا عرضهم للتكذيب. اهـ.
ومثال ذلك: لما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل إلى أهل اليمن فقال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم. رواه البخاري، ومسلم.
قال الشيخ/ عبد المحسن العباد في شرح سنن أبي داود: فيه دليل على التدرج من الأهم إلى المهم في الدعوة، فيبدأ لهم بالأساس الذي إذا أتوا به انتقلوا إلى غيره. اهـ.
وقد سئل الشيخ/ ابن باز: بعض الناس تستعجل في بعض الأمور في توضيحها لمن يسلم مجددًا، فربما ذكروا -مثلًا- أمورًا ربما تكون فرعية، كالالتزام بالحجاب الكامل بالنسبة للنساء، وكالالتزام بإعفاء اللحية، من أول وهلة، وكالختان، وما أشبه ذلك. هل لسماحتكم من كلمة حول هذا الموضوع؟

فأجاب: هذه فروع؛ إن بينها له فلا بأس، وإن أخرها إلى وقت آخر فلا بأس، المهم الأصول حتى يدخل في الإسلام، أما الفروع الأخرى: حلق اللحية أو قصها، وكذلك الحجاب، وكذلك ما يتعلق بالختان، وما أشبه ذلك، هذه لو أجلت لئلا ينفر من الإسلام، ويكون التعليم بأصول الإسلام ومبانيه العظام، فإذا دخل بالإسلام بعد ذلك يرغب في بقية أعمال الإسلام. اهـ.
والمقصود: أن التعرض لمسائل الخلاف -ولا سيما ما كان منها خفيًّا دقيقَ المأخذ- لا يناسب مقام الابتداء في الدعوة إلى الله، وبعضه لا يناسب إلا أهل العلم أصلًا، ولذلك عقد الإمام البخاري في صحيحه: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا. وأسند تحته قول علي بن أبي طالب: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!". وراجع الفتوى رقم: 129154.
وأما بخصوص المسائل الاجتهادية: فينبغي لعموم المسلمين -وخاصة من كان حديث الإسلام منهم- أن يفرقوا بين الدين كوحي معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس فيه اختلاف ولا تنافر، وبين فهمنا نحن لفروع الدين وتفاصيله وتنزيل أحكامه على الواقع! فهذا الأخير يوجد فيه اختلاف وتباين، وفيه المصيب وفيه المخطئ، وإن كان الهدف واحدًا، والمصدر والمورد واحدًا، ولكنه التفاوت في الفهم والملكات والمدارك، ثم في العلم والحفظ والاطلاع، ثم في تقدير الواقع ومعرفة تفاصيله .. الخ.
وحسبنا في ذلك أن يكون الخلاف الحاصل بين أهل الحق من الخلاف السائغ المعتبر، فإنه لا يفسد للوُدّ قضية، ولا يصح وصف أحد طرفيه بالضلال. وهنا لا بد من التفريق بين هذا النوع من الخلاف، وبين الخلاف غير السائغ ولا المعتبر، فالأول إنما هو اختلاف في الفهم، ولا يصادم نصًّا ولا إجماعًا سابقًا، بخلاف الثاني؛ فإنه لا يعتمد على ما يصلح للاستدلال به . وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك في الفتوى رقم: 137905، وتجد فيها إحالات على فتاوى في بيان نوعي الخلاف، وبيان أسباب اختلاف العلماء، وما وراء ذلك من الحكم.
وأما مسألة الاقتصار على ما يراه الداعية راجحًا، أو ذكر الخلاف والمذاهب: فهذا يختلف بحسب الحال، وباعتبار الواقع وحاجة المدعو. وينبغي أن يكون الداعية فقيه النفس، حسن التقدير للواقع ولحال المدعو، ليختار ما يناسبه، ويجنبه الشبهات التي يعجز عن استيعاب جوابها وبيان حقيقتها.
وراجع للفائدة مسألة قتل المسلم بالكافر في الفتويين: 265627، 278224.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني