الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التأصيل الشرعي والفوارق بين بدع العادات وبدع العبادات

السؤال

لماذا يصف العلماء الأعياد (غير الآتية من الكفار) غير عيد الفطر والأضحى، بأنها مبتدعة في الدين؟ هل وجود أعياد دينية عندنا، يجعل من أي عيد دنيوي آخر ليس من اختراع الكفار، بدعة في الدين، مع أنه ليست له علاقة بالدين؟ أنا لا أستطيع ربط كل الأعياد الدنيوية بالدين، إذا لم يكن يختص بمناسبة دينية.
فأرجو تأصيل هذه الفكرة بارك الله فيكم.
ثم كلام ابن عثيمين أن عادة الكفار إذا انتشرت بين المسلمين، ولم تعد من اختصاص الكفار، فلا بأس بها. ألا يدخل في ذلك عيد الأم مثلا؛ لأننا منذ ولدنا، ونحن نرى المسلمين يحتفلون به، فلم يعد من اختصاص الكفار؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلو ذكر السائل مثالا لما يريد، لكان أبين لمراده، وأوضح لسؤاله، وعلى أية حال، فلو فرض وجود مناسبة دنيوية محضة، لا علاقة لها بالدين، ولا يقصد بها التقرب إلى الله، ولم تأتنا من قبل الكفار، وليس فيها شيء من سنن الجاهلية (سنة غير المسلمين)، فإن الاهتمام، أو الاحتفاء بها يرجع في حكمه إلى ما ترمي إليه من مصلحة، أو يترتب عليها من مفسدة، يعني أنه يمكن أن تكون حينئذ من المصالح المرسلة. وهذه المصلحة المرسلة لا بد أن تخلو من مصادمة الشرع، وألا تعارض دليلا خاصا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو يعدد طرق الأحكام الشرعية في علم أصول الفقه: الطريق السابع: المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه. اهـ.

وراجع في الفرق بين البدعة، والمصلحة المرسلة، الفتوى رقم: 215017.
وقد نقلنا للسائل في جواب سؤال سابق له، في الفتوى رقم: 327586، كلام اللجنة الدائمة للإفتاء في التفريق بين أنواع الاحتفال، وبين بدع العادات، وبدع العبادات، وتجد فيها قولهم: ما كان من ذلك مقصودا به التنسك، والتقرب، أو التعظيم كسبا للأجر، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية أو نحوهم من طوائف الكفار، فهو بدعة محدثة، ممنوعة، داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد» رواه البخاري ومسلم. مثال ذلك الاحتفال بعيد المولد، وعيد الأم، والعيد الوطني؛ لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن بها الله، ولما في ذلك التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة، ولما في الثاني والثالث من التشبه بالكفار. وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلا لمصلحة الأمة وضبط أمورها؛ كأسبوع المرور، وتنظيم مواعيد الدراسة، والاجتماع بالموظفين للعمل، ونحو ذلك مما لا يفضي به إلى التقرب والعبادة، والتعظيم بالأصالة، فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فلا حرج فيه، بل يكون مشروعا. اهـ.
وأما ما ذكره السائل عن الشيخ ابن عثيمين في مسألة ضابط التشبه المحرم بالكفار، فهذا في العادات المحضة، وأما الأعياد ففيها نظر آخر غير التشبه. ولا إشكال في المنع منها؛ لوجود علة أخرى غير التشبه.

قال الشيخ ابن عثيمين: مقياس التشبه أن يفعل المتشبِه ما يختص به المتشبَه به، فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئاً من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين، وصار لا يتميز به الكفار، فإنه لا يكون تشبهاً، فلا يكون حراماً من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرماً من جهة أخرى. اهـ.
ومما ينبغي نقله لبيان رأي الشيخ ابن عثيمين في موضوع الأعياد، والمناسبات، أنه قد سئل رحمه الله ـ : عن الفرق بين ما يسمى بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- والاحتفال بالمولد النبوي، حيث ينكر على من فعل الثاني دون الأول؟

فأجاب بقوله: الفرق بينهما حسب علمنا من وجهين:

ـ الأول: أن أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- لم يتخذ تقرباً إلى الله عز وجل، وإنما يقصد به إزالة شبهة في نفوس بعض الناس في هذا الرجل، ويبين ما منَّ الله به على المسلمين على يد هذا الرجل.

ـ الثاني: أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لا يتكرر ويعود كما تعود الأعياد، بل هو أمر بين للناس، وكتب فيه ما كتب، وتبين في حق هذا الرجل ما لم يكن معروفاً من قبل لكثير من الناس، ثم انتهى أمره. اهـ.

يعني أن أحدا لا يقصد التقرب إلى الله تعالى بنفس هذا الأسبوع، ولا يعتقد فضيلة له في ذاته، بخلاف الاحتفال بالمولد النبوي الكريم.

وقد سئل الشيخ أيضا: عن حكم إقامة الأسابيع كأسبوع المساجد، وأسبوع الشجرة؟
فأجاب بقوله: هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلاً من الشرع، وإذا اتخذت على سبيل التعبد، وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد، فإنها تلتحق بالبدعة؛ لأن كل شيء يتعبد به الإنسان لله -عز وجل- وهو غير وارد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه من البدع. لكن الذين نظموها يقولون: إن المقصود بذلك هو تنشيط الناس على هذه الأعمال التي جعلوا لها هذه الأسابيع، وتذكيرهم بأهميتها. ويجب أن ينظر في هذا الأمر، وهل هذا مسوغ لهذه الأسابيع أو ليس بمسوغ؟ اهـ.
وهذا الكلام الأخير يدور في فلك ما قدمناه من ربط المناسبات التي لا علاقة لها بالدين، ولا يقصد بها التقرب إلى الله، ولم يكن فيها شيء من اتباع سنن الجاهلية ـ إن وُجِدت ـ بباب المصالح المرسلة، وهو الذي ينطبق عليه ما تقدم نقله عن علماء اللجنة الدائمة في قولهم: وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلا لمصلحة الأمة وضبط أمورها؛ كأسبوع المرور، وتنظيم مواعيد الدراسة، والاجتماع بالموظفين للعمل ونحو ذلك مما لا يفضي به إلى التقرب والعبادة والتعظيم بالأصالة، فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فلا حرج فيه، بل يكون مشروعا. اهـ.

وأما بالنسبة لما يسمى بعيد الأم، فمع ما يُذكر من أصله الوثني، فلا يخفى ما اقترن به من مظاهر الاحتفال، وإحداث ما يشبه شعائر العيد؛ كإظهار الفرح والسرور، وتقديم الهدايا ونحو ذلك، وهذا قد سبق أن نقلنا تنبيه الشيخ ابن عثيمين عليه، في الفتوى المشار إليها آنفا برقم: 327586. وتجد فيها الإحالة على الفتوى رقم: 153595 وفيها لفت النظر إلى أن الاحتفال بيوم الأم على وجه الخصوص، قد صار له في السنين المتأخرة ضجة إعلامية ضخمة، ومراسم احتفالية فخمة، حتى إن كثيرا من البلاد يكون عندهم في هذا اليوم عطلة رسمية.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني