الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المراد بنجد التي ورد الحديث بأن "بها يطلع قرن الشيطان"

السؤال

ما معنى كلمة: (نجد) في الحديث الشريف الذي فيما معناه أن الفتنة تخرج من نجد، أو الدجال يخرج من أرض نجد؟ فما المقصود من هذا الحديث؟ وما هي نجد؟ وهل ذكرت نجد (الجزيرة العربية) في أحاديث أخرى؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

روى البخاري في صحيحه في كتاب الفتن، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جنب المنبر، فقال: "الفتنة ها هنا، الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان، أو قال: قرن الشمس. وفي رواية عنه أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق، يقول: "ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان. وفي رواية عنه، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا"، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا؟ قال: فأظنه قال في الثالثة: "هناك الزلازل، والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان".

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق، ونواحيها، وهي شرق أهل المدينة، وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض وهي خلاف الغور، فإنه ما انخفض من الأرض، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة. انتهى.

وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي إن نجدًا من ناحية العراق، كأنه توهم أن نجدًا موضع مخصوص، وليس كذلك، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى نجدًا، والمنخفض غورًا. اهـ.

وقد دلت السنة الصحيحة على أن الفتن تكثر من جهة المشرق، والتاريخ يشهد بذلك -كما يأتي-، قال الحافظ في الفتح: وقال غيره ـ أي: غير الخطابي ـ كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية، كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سببًا للفرقة بين المسلمين، وذلك ما يحبه الشيطان، ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة. اهـ.

وقال النووي: والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان، ومن الكفر، كما قال في حديث آخر: "رأس الكفر نحو المشرق"، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة، ومثار لكفرة الترك الفاسقة العاتية الشديدة البأس. اهـ.

وقال القسطلاني: إنما أشار عليه الصلاة والسلام إلى المشرق؛ لأن أهله يومئذ أهل كفر، فأخبر أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذا وقع، فكان وقعة الجمل، ووقعة صفين، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد، والعراق، وما وراءها، وكان أصل ذلك كله وسببه قتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وهذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وشرف، وكرم.

ويشهد لما قاله هؤلاء الأئمة أن أكثر الفتن والبدع جاءت من جهة المشرق، كالقاديانية، والبهائية، والبابية، وأصل النصيرية، والدروز، والرافضة، وفتنة المغول، والقرامطة، وغيرهما، وفي الصحيحين: رأس الكفر نحو المشرق، والفخر، والخيلاء في أهل الخيل، والإبل، الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم.

قال الحافظ في الفتح في كتاب بدء الخلق: وفي ذلك إشارة إلى شدة كفر المجوس؛ لأن مملكة الفرس، ومن أطاعهم من العرب، كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القوة، والتكبر، والتجبر؛ حتى مزق ملكهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي في موضعه، واستمرت الفتن من قبل المشرق، كما سيأتي واضحًا في الفتن. اهـ.

والحاصل: أنه ليس المقصود بنجد موضعًا مخصوصًا بهذا الاسم، بل كل ما علا من الأرض، فهو نجد، لكن دلت السنة -كما سبق- على أن جهة المشرق هي المعنية بهذه الأحاديث.

ومن حملها على نجد العراق، فلكثرة الفتن هناك، ويشهد لهذا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم بارك لنا في صاعنا، ومدنا، وبارك لنا في شامنا، ويمننا. فقال رجل من القوم: يا نبي الله، وعراقنا؟ قال: إن بها قرن الشيطان، وتهيج الفتن، وإن الجفاء بالمشرق. رواه الطبراني في الكبير، ورواته ثقات. وروى مسلم في الصحيح من طريق فضيل بن غزوان قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ها هنا، وأومأ بيده نحو المشرق، من حيث يطلع قرن الشيطان".

وليعلم أن هذا لا يعني ذم كل من سكن، أو نشأ في هذه البلاد، فهذا لا يقوله عاقل، فكم خرج من تلك المناطق من العلماء، والمحدثين، والفقهاء، والزهاد، منهم أبو حنيفة، وأحمد وسفيان الثوري، وغيرهم من الكبار.

ولا يحكم على أحد بعينه بمدح، أو ذم؛ تبعًا لشرف المكان، أو ضعته، وإنما بما يظهر من قوله، وعمله، فكم سكن الأماكن الفاضلة -كمكة، والمدينة، والشام- من ليس فيه فضل، ولا علم، بل ولا إيمان.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني