الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يتعين على الشخص رد الأموال المحرمة التي أنفقها قبل التوبة؟

السؤال

كنتُ قد سألتُ حضراتكم عن شخص كان يكسب مالًا حرامًا سنوات طويلة، ومنَّ الله عليه بالتوبة، فتخلص من كل الأموال التي كانت بين يديه عند التوبة، ولكنكم قلتم: إنه عليه أيضًا أن يرد الأموال التي أنفقها قبل التوبة، وإنها تبقى في ذمته، ما لم يكن فقيرًا، وسؤالي هو: ما دليلكم على هذه الفتوى؟! فحضراتكم قد استشهدتم بكلام للدكتور عباس الباز، وهو نفسه لم يقدم دليلًا فيما يخص هذه المسألة، وأظن أنه كان يتحدث عن الإنفاق من المال الحرام بعد التوبة، مفرِّقًا بين الفقير المحتاج إلى هذا المال وغير الفقير، وهناك من يقول: إن من تاب عن المال الحرام، فإنه يتخلص مما بين يديه، أما فيما يخص ما أنفقه قبل التوبة، فلا شيء عليه، وهذا الرأي به وجاهة، فلو أن شخصًا كان يعمل مثلاً في البنوك الربوية، أو في الغناء لمدة عشرين عامًا، وهو عالم بالتحريم، ولم يكن فقيرًا، ومنَّ الله عليه بالتوبة، فتخلص مما بين يديه من المال الحرام، فهل نلزمه أيضًا برد الأموال التي أنفقها قبل التوبة طيلة هذه الأعوام العشرين؟! هذا الرأي فيه مشقة بالغة، ويحتاج إلى دليل صريح، فضلًا عن أن التوبة تجبُّ ما قبلها.
باختصار: هل الأموال الحرام التي أنفقها الشخص قبل التوبة تبقى في ذمته، ويتعين عليه رد مثلها عند التوبة؟ والمقصود هنا الأموال المحرَّمة لكسبها، وليس الأموال المغصوبة، أو المسروقة.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فكلام الدكتور عباس الباز كان في مسألة الانتفاع بالمال الحرام بالإنفاق على النفس، دون التعرض لكون ذلك قبل التوبة أو بعدها! وإنما فرق بين انتفاع الفقير وغير الفقير. وذكر الخلاف بين الحارث المحاسبي الذي لا يجيز للفقير الانتفاع به، وبين جمهور الفقهاء الذين يجيزون ذلك، فقال: اختلفت كلمة الفقهاء في حكم إنفاق المسلم المال الحرام على نفسه إذا حازه وكان فقيرًا، إذا أراد أن ينتفع به ولم يعلم مالكه، هل يتحلل منه بإنفاقه على نفسه، أم بإعطائه إلى الغير؟ وإذا أنفقه على نفسه هل يكون ضامنًا مثله إذا أيسر أم لا يلزمه ضمانه؟ اهـ. ورجح قول الجمهور، ثم فرق بين الفقير وغيره. وذكر الكلام الذي سبق أن نقلناه في الفتاوى التالية: 296356، 343096، 194447. وفيه النص على علة الحكم، وسبب ترجيحه، والفرق بين الفقير وغيره، حيث قال: في هذه الحالة يكون متعديًا بهذا الإنفاق؛ لأنه غير مأذون له به؛ لعدم وجود ما يبرره، وهو الفقر والحاجة، فإذا تاب هذا المسلم مما فعل تعين عليه أن يبرئ ذمته مما ثبت فيها من حق الغير، إذ الواجب أصلًا على هذا المسلم أن يعيد المال الحرام إلى صاحبه، إن كان معلومًا، فإن لم يكن معلومًا، وجب عليه أن يخرجه من عهدته بالتصدق به على الفقراء والمحتاجين. اهـ. فهذا هو وجه الفتوى وتعليلها.

وعلى أية حال؛ فالمسألة خلافية، والخلاف فيها لا يقتصر على ما ذكره السائل من تخلص التائب من المال الحرام مما معه دون ما أنفقه، فلا يجب عليه ضمانه مثله، بل إن من أهل العلم من رجح أن التائب من المال الحرام يقر عليه، ويطيب له بعد التوبة، ولا يجب عليه التخلص مما في يده منه، كما هو الحال في حق الكافر إذا أسلم، وعنده مال مكتسب من طريق محرم، وهذا قول لشيخ الإسلام ابن تيمية، ذكره مفصلًا في تفسير آيات الربا من سورة البقرة، عند قوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 275] من كتابه: (تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء) (2 / 574 : 596)، ولا حرج في تقليد هذا القول لمن اعتقد صحته، وترجح عنده.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني