الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل تزول عقوبة تأخير المغفرة عمن اعتذر لأخيه وسعى في إزالة أسباب الهجر؟

السؤال

بيني وبين شخص مشاحنة، وهو الظالم، وطلب مني مسامحته، وأرسل لي حديثًا: أن الله يغفر لكل الناس في منتصف شعبان إلا المشرك، والمخاصم، ولكني رفضت، ونحن الآن في منتصف شهر شعبان، فهل لا يغفر لي وله؟ أم يغفر له ولا يغفر لي؟ (أي لا يعتبر مشاحنًا؛ لأنه طلب المسامحة)، وهل هذا الحديث يعني أنه لا يغفر أبدًا للمتشاحنين؟ أم إنه لا يحصل المتشاحنان على مغفرة خاصة بشهر شعبان؟ وهل لا يرفع عمل المشاحن حتى يصطلح مع الذي شاحنه؟ شكرًا لكم على جهودكم، وخدمتكم لنا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالظاهر أن المشاحنة ما دامت موجودة، فهي مانعة من حصول المغفرة المذكورة في حديث ليلة النصف من شعبان، ونحوه من الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم: تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا. رواه مسلم.

وهذه المغفرة تحتمل أن تكون للذنوب مطلقًا، وتحتمل أن تكون لذنب الهجر خصوصًا، قال القاري في مرقاة المفاتيح: (هذين) أي: الرجلين، وأخروا مغفرتهما من ذنوبهما مطلقًا زجرًا لهما، أو من ذنب الهجران فقط، وهو الأظهر، (حتى يصطلحا) أي: يتصالحا، ويزول عنهما الشحناء، فلا يفيد التصالح للسمعة، والرياء، والظاهر أن مغفرة كل واحد متوقفة على صفائه، وزوال عداوته، سواء صفا صاحبه أم لا. اهـ.

ويستفاد من هذا أن عقوبة تأخير المغفرة تزول عمن اعتذر لأخيه، وسلَّم عليه، وسعى في إزالة أسباب الهجر، وتبقى في حق صاحبه، إن لم يقبل منه، قال ابن رسلان: ويظهر أنه لو صالح أحدهما الآخر، فلم يقبل، غفر للمصالح. اهـ. نقله عنه المناوي في فيض القدير، والزرقاني في شرح الموطأ.

وقال العزيزي في شرح الجامع الصغير: قال العلقمي: فلو كانا متباعدين، فتراسلا بالسلام، والمودة، قام مقام الصلح. والظاهر أن أحدهما لو صالح الآخر، وسلم عليه، فلم يرد عليه، ولم يصالحه، فيغفر للمصالح، ويؤخر من لم يصالح. اهـ.

وقال ابن عبد البر في التمهيد: فيه أن المهاجرة، والعداوة، والشحناء، والبغضاء، من الذنوب العظام، والسيئات الجسام، وإن لم تكن في الكبائر مذكورة، ألا ترى أنه استثنى في هذا الحديث غفرانها، وخصها بذلك ... وفيه أن الذنوب إذا كانت بين العباد، فوقعت بينهم فيها المغفرة، والتجاوز، والعفو، سقطت المطالبة بها من قبل الله عز وجل، ألا ترى إلى قوله: "حتى يصطلحا"، فإذا اصطلحا، غفر لهما ذلك، وغيره من صغائر ذنوبهما بأعمال البر من الطهارة، والصلاة، والصيام، والصدقة. اهـ.

وقال ابن هبيرة في الإفصاح: إنما يؤخر غفران ما بينهما؛ لأجل أن أمرهما لم ينفصل بعد بينهما، وفي هذا تحذير من العداوة، واللجاج. اهـ.

وقال في موضع آخر: فإنه لو غفر أحدهما، كان ذلك طيًّا لحق مشاحنه، فلما كان الأمر بينها واقفًا من جهتهما معًا وقف الأمر في قضيتهما على ما يفضي إليه حالهما، وكان هذا شديدًا في تحذير المؤمن من المشاحنة. اهـ.

وقال أيضًا: المتشاحنان الذي ينصرف إليهما إرجاء الغفران: قد يكونا متحاسدين، أو متكبرين، أو باغيين، أو متقاطعين، أو متنافسين، أو متماثلين، أو متقاربين؛ فليحذر المؤمن من هذه الحالة، وليغفرها لأخيه خائفًا أن يفوته شحناء أخيه ودَّ ومحبة الله له، وليبادر الفيئة منها؛ فإن مَن استبدل مِن محبة الله ومغفرته شحناء أخيه لممن يشمله قول الله عز وجل: {بئس للظالمين بدلًا}. اهـ.

وقال الحليمي في شعب الإيمان: معنى هذا أن من لم يكن مشركًا، فقد تناله المغفرة، ما لم يكن مهاجرًا لأخيه المسلم، فإنه إذا كان كذلك، لم تنله مغفرة، وإن لم يكن مشركًا. اهـ.

وقال ابن رجب في لطائف المعارف: ومن الذنوب المانعة من المغفرة أيضًا الشحناء، وهي حقد المسلم على أخيه، بغضًا له لهوى نفسه، وذلك يمنع أيضًا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة، والرحمة. اهـ.

والمقصود أن عقوبة تأخير المغفرة - أيًّا كان معناها - موقوفة على حصول الصلح، وزوال الهجر، ولا ينبغي التفصيل في بيان معنى المغفرة، ومن أي الذنوب تكون، بما يؤدي إلى تخفيف الزجر النبوي عن معصية الهجر، فضلًا عن رفعها بالكلية! فإن القاعدة عند أهل العلم في أحاديث الوعيد أنها لا تفسر بما يفرغها من الزجر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: عامة علماء السلف يقرون هذه الأحاديث، ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نقل كراهة تأويل أحاديث الوعيد عن سفيان، وأحمد بن حنبل - رضي الله عنهم -، وجماعة كثيرة من العلماء. ونص أحمد على أن مثل هذا الحديث لا يتأول تأويلًا يخرجه عن ظاهره المقصود به. اهـ.

وأما السؤال عن عمل المشاحن، وهل لا يرفع حتى يصطلح مع الذي شاحنه؟ فلا نعرف شيئًا صحيحًا في فضائل شهر شعبان يفيد هذا، غير أنه ثبت أن الأعمال ترفع فيه إلى الله تعالى، وانظر الفتوى رقم: 54164.

وأما عدم رفع عمل المشاحن فيه، فلا نعرف فيه شيئًا صحيحًا، وإنما هو إرجاء المغفرة، كما تقدم.

وثبت نحو ذلك في كل يوم اثنين، وخميس، كما في حديث صحيح مسلم المتقدم، إلا إنه قد روي عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا: ما من يوم اثنين، أو خميس، إلا يرفع فيهما الأعمال، إلا أعمال المتهاجرين. رواه الطبراني في الكبير. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه عبد الله بن عبد العزيز الليثي، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره. اهـ.

وهذا الرجل قال عنه ابن حجر في التقريب: ضعيف، واختلط بأخرة. اهـ. وقال عنه الذهبي في الكاشف: ضعفه أبو حاتم. اهـ.

وروى الخرائطي في مساوئ الأخلاق بإسناده عن مجاهد، قال: الأقلف موقوف عمله حتى يختتن، والصارم الظالم موقوف عمله حتى يفيء. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني