الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يسوغ الابتعاد عن الأبوين المزعجين والأرحام المكروهين؟

السؤال

من الثابت شرعا وجوب صلة الرحم حتى لو كان بينهم بغض، كما هو المفتى به عندكم، ما لم تكن المشاكل كبيرة جدا، كما نقلتم عن ابن عبد البر في فتاواكم الكريمة.
لكن عندي إشكال: لو كان الرجل يكره رحمه بسبب إهمالهم، وفراغهم، وغبائهم؛ فان من حقوق الإنسان أن يبتعد عما يزعجه. والدين في هذه الحالة يوجب صلة الرحم. أليس هذا الرأي الديني يعارض حق الإنسان؟ أي حقه في الابتعاد عمن يزعجه ولو كان أباه أو أمه؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فههنا أمور لا بد من تقريرها بين يدي الجواب.

ومنها: أن الله تعالى هو العالم بالإنسان ومصالحه، وما ينفعه في دنياه وآخرته. ولا يمكن أن يأمره سبحانه بشيء فيه مضرته، فجميع أحكام الله تعالى عدل وحكمة ومصلحة، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا {الأنعام:115}، وقال سبحانه: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {الملك:14}.

ومنها: أن الإنسان عبد لله تعالى، فعليه أن يستسلم لأحكامه سواء وافقت هواه أو خالفته؛ لأن هذا هو مقتضى العبودية، وليس لأحد أن يتحكم بعقله أو رأيه في أحكام الشرع المطهر، بل الواجب على كل مسلم الخضوع والتسليم والانقياد لحكم الله تعالى، كما قال جل اسمه: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {النساء:65}.

ومنها: أن الشرع المطهر أتى بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها، فما أمر الشرع به، فهو مصلحة، وما نهى عنه فهو مفسدة.

وإذا تقرر لك هذا، فإن من محاسن الإسلام ومظاهر عظمته، أمره بصلة الأرحام، وحرصه على توثيق أواصر الود بين الأنام؛ فإن في ذلك عمارة الكون، وصلاح أحوال العالم.

وقد جعل الله للأمهات والآباء حقا عظيما بما كابدوه من المعاناة في التربية، والبذل في سبيل الأولاد صغارا، فحق لهم أن يجزوا بالإحسان إحسانا، وأن يسدى لهم نظير ما قدموه، وهذا مقتضى العدل والحكمة، بل مهما فعل الولد لوالده، فإنه لا يجزيه بذلك عوضا عما أسداه إليه، كما في الحديث: لا يجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكا فيعتقه. أخرجه مسلم.

فكيف يكون من حق الولد أن يُعرِض عن والديه ويجفوهما، ولا يحسن إليهما بعد ما بذلاه وأسدياه إليه؟!! وهل هذا إلا محض الظلم؟!! وأين حق الإنسان الذي هو الوالد في البر والإكرام، والاحتمال عند الكبر، ورد جميله بالمثل؟!!

لا شك أن بداهة العقول توافق ما قررته الشريعة في هذا الأمر، وتقرر أنه الموافق للعقل والفطرة، والمصلحة وحقوق الإنسان، وكذا صلة الأرحام؛ فإن ما بينك وبينهم من قرابة، يوجب عليك صلتهم بما أمكنك، ما لم يترتب على ذلك أذية، لما في ذلك من عمارة الكون وصلاح نظام العالم، ثم صلة الرحم تعود بالنفع العظيم على الواصل، فإنها سبب في زيادة الرزق، ونسء الأجل؛ كما ثبت في الحديث.

فلله ما أعظم هذا الدين، وما أعظم منة الله علينا به. فاعرف حكمة الشرع فيما أمر به، وإياك والاعتراض عليه أو الظن بأنه لم يراع المصالح، أو أخل ببعض حقوق الإنسان.

فإن قولك: إن حكم الشرع يتعارض مع حقوق الإنسان. كلام خطير، يجب عليك أن تتوب إلى الله منه، فالإنسان عبد لله، عليه أن يتمم وظيفة العبودية، ويقوم بها على وجهها، فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.

وأما ما ذكرت من كون بعض الأرحام فوضويا وما إلى ذلك، فما دام ضرر أفعالهم لا يتعدى إليك، فصلتهم واجبة عليك.

ومن تأذى بصلة رحمه، جاز له هجرهم لدفع أذاهم، وكذا يجوز الهجر للمصلحة الراجحة كأن كانوا من العصاة الذين يرتدعون بالهجر.

هذا؛ ولم يسد الشرع باب الإصلاح لمن وجد خللا أو قصورا، فيمكن الولد مناصحة والديه وذوي رحمه، في تقصيرهم أو ما يراه من أخطاء، لكن بالأسلوب الذي لا يغضبهم، ولا يثير حفيظتهم. ثم ليعلم أنه مهما أحسن إلى والديه وذوي رحمه، فهو محسن لنفسه في الحقيقة، فإن البر وصلة الرحم من أعظم القربات، وأثقلها في ميزان العبد.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني