الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الدعاء بالرحمة الله لمن مات منتحرًا، وتفسير قوله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم"

السؤال

لي أخ مولود بمتلازمة كلايفنتر (xxy)، وهو منذ طفولته يتصرف كالإناث، وعندما كبر بلغ بلوغ الرجال؛ فنبت له شارب، ولحية، وكان يحاول دائمًا التصرف كالرجال، وكان يأتيني لأعلمه كيف يمشي ويتكلم كالرجال، لكن في كل مرة تطغى عليه فطرته الأنثوية.
عانى من التنمر في المدرسة، وفي محيط الأقارب، وكانت ثقته بنفسه معدومة، وكان يتأتئ في الكلام كثيرًا، وكان محط السخرية من الجميع بسبب أنوثته.
علاقته مع ربه جيدة، فهو يصلي قيام الليل، ويصوم الاثنين والخميس، وهو كثير الاستغفار وقراءة القرآن.
في الفترة الأخيرة ترك جامعته، وعندما سألناه: لماذا؟ قال: ليرتاح هذه السنة، وبعدها بفترة أجرى عملية تبرع بالكلية لشخص لا يعرفه؛ يبتغي الأجر، وبعدها بفترة حاول التبرع بجزء من كبده، لكن المستشفى رفض؛ بحجة أن جسده لن يتحمل، وزار جميع المستشفيات وكلهم رفضوا.
رجع أخي لجامعته، ومرت الأيام، وتفاجأنا بعدها أنه بينما كان مع أصدقائه في القارب على البحر، سقط منه وغرق وتوفي.
بعدها بفترة تذكرت أنني أعرف رقم هاتفه السري -لم يكن يعلم أني أعرفه-، وفتحت هاتفه، واكتشفت الطامة الكبرى، فقد فتحت محادثات له مع أناس غرباء تعرف إليهم عبر الإنترنت، فيها كلام كثير، وخلاصته: أنه سينتحر عمّا قريب؛ لأنه ليس رجلًا ولا أنثى، وليس له مستقبل ولا حاضر، وأن انتحاره ليس قنوطًا من رحمة الله، بل طمعًا في رحمته، ويرجو من الله برحمته أن يغفر له، وأنه تبرع بكليته ليكون عمله هذا شفاعة له.
وكذلك صبره على أذى الناس، وعلى سخريتهم منه، وعلى أنه محروم من الحياة؛ لأنه -بزعمه- لا يقدر على الانسجام مع مجتمع الرجال؛ لأنه ليس برجل مثلهم، ولن يستطيع دخول مجتمع النساء.
وأنه دعا ربه إن كان سيعذبه بسبب انتحاره، فليحذره، أو يبين له ذلك في المنام، لكنه لم يأته التحذير، ففهم أنها رسالة ربانيه تفيد أن الله لن يعذبه، وأنه في الماضي عمل فاحشة اللواط، وحد اللواط في الإسلام هو القتل، فلديه مخرج شرعي لقتل نفسه، وأخي كان حسن الخلق، متدينًا، بارًّا بوالديه، وحج قبل وفاته، فهل سيغفر الله له؟
سؤال آخر: في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)، هل المقصود بلا تقتلوا أنفسكم الانتحار، أم قتل المسلم لأخيه؟، "ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف سنصليه نارًا"، هل المقصود أن العذاب فقط لمن يقتل أخاه، أو ينتحر عدوانًا وظلمانًا؟ وهل هنالك انتحار أو قتل نفس دون ظلم وعدوان، ولن يعاقب الله فاعله؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فأما سؤالك الأول: فإن كان أخوك -رحمه الله- قد مات حتف أنفه، ولم يمت منتحرًا، فهو -إن شاء الله- من الشهداء؛ لأن الغريق شهيد.

وإن كان قد مات منتحرًا، فقد مات على الإسلام، وترجى له رحمة الله التي وسعت كل شيء؛ فعليكم أن تدعوا له، وتجتهدوا في ذلك؛ لعل رحمة الله تتداركه، وقد دلت النصوص على أن المنتحر من جملة المسلمين، وأنه ليس خارجًا من الملة بهذا الفعل، وأنه تحت مشيئة الله تعالى، ففي صحيح مسلم عن جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ؛ فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتِهِ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فاغفر.

قال أبو زكريا النووي -رحمه الله-: فيه حجة لقاعدة عظيمة لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً غَيْرَهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِالنَّارِ، بَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَشِيئَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْقَاعِدَةِ وَتَقْرِيرُهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ شَرْحٌ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ، الْمُوهِمُ ظَاهِرُهَا تَخْلِيدَ قَاتِلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ عُقُوبَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ هَذَا عُوقِبَ فِي يَدَيْهِ. فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَضُرُّ. انتهى.

وإذا علمت هذا؛ فالنصيحة المبذولة لكم هي الاجتهاد في الدعاء لهذا الميت، وأن تكلوا أمره إلى الله تعالى الذي لا تضيع عنده مثاقيل الذر، والذي هو أرحم بعبده من الأم بولدها.

وأما سؤالك عن تفسير الآية: فإن الآية فيها وجهان من التفسير، وكلاهما محتمل.

قال القاسمي في تفسيره: وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. فيه وجهان:

الأول: أن المعنى: لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين. فإن كلهم كنفس واحدة. والتعبير عنهم بالأنفس؛ للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل.

والثاني: النهي عن قتل الإنسان نفسه. وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد. وأقره النبيّ صلى الله عليه وسلم على احتجاجه. كما رواه الإمام أحمد، وأبو داود. انتهى.

وأما قوله: عُدْوَانًا وَظُلْمًا {النساء:30}، فلا يفيد أن هناك انتحارًا جائزًا، حاشا وكلا، بل كل قتل النفس محرم، وإنما خرج بهذا القيد ما كان على سبيل الخطأ، فمن قتل نفسه خطأ، كما حدث لعامر بن الأكوع -رضي الله عنه-، فليس مؤاخذًا بذلك؛ ولذا قال الألوسي في تفسيره: وخرج بهما السهو، والغلط، والخطأ، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام. انتهى.

نسأل الله أن يشمل أخاك برحمته، التي وسعت كل شيء.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني