الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الشفاعة في الحدود.. شبهة ودحضها

السؤال

أقرأ حاليا كتابا لابن قتيبة بعنوان "تأويل مختلف الحديث" و وجدت فيه ما يلي:
.... عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت تستعير حليا من أقوام فتبيعه، فأخبر النبي (صلى الله عليه وسلم )، بذلك فأمر بقطع يدها.
نحن نقول: إن هذا الحديث صحيح، غير أنه لا يوجب حكما، لأنه لم يقل فيه: إنه قطعها، وإنما قيل: أمر بقطعها.
وقد يجوز أن يأمر ولا يفعل، وهذا قد يكون من الأمة، من وجه التحذير والترهيب، ولا يراد به إيقاع الفعل....
ما صحة هذا الكلام؟
وإن كان صحيحا، فهل يجوز الاستدلال به في عدم إقامة حد من الحدود إذا لم يثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أقامه على أحد؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فننبهك أيها السائل الكريم إلى أن الانسياق وراء الشبه وتتبعها مذموم, لأن الشبهة قد تقع موقعها في قلبك فلا تستطيع دفعها لنقص في العلم أو قلة إدراك في الفكر ونحوه؛ ولذا فينبغي الإعراض عن الشبه وعدم الوقوف عندها ولو كانت من عالم لأنه قد يخطئ، فغير المعصوم لا يمتنع عليه الخطأ والزلل . ثم إنه قد يورد الشبهة ويقصد بها معنى خاصا فلا يدرك القارئ ذلك فيحملها على غير محملها ويضعها في غير موضعها.

ومن ذلك ما ورد هنا في هذا الحديث، فالكلام فيه عن حكم الخيانة هل تأخذ حكم السرقة فتقطع يد الخائن أم لا؟ لما ورد في حديث المخزومية ففي رواية أنها كانت تستعير المتاع والحلي فتبيعه فقطعت يدها، وفي روايات أنها سرقت فقطعت يدها. ومن هنا جمع أهل العلم بين الروايات بأن سبب القطع هو السرقة وليس الخيانة, وإنما ذكرت من باب التعريف بها كما قال النووي في شرحه لمسلم: قال العلماء: المراد أنها قطعت بالسرقة؛ وإنما ذكرت العارية تعريفا لها ووصفا لها لا أنها سبب القطع. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ليس على مختلس ولا منتهب ولا خائن قطع. وصححه الألباني.

ولكن على فرض أن الحديث ورد في مسألة الخيانة لا السرقة فجمعاً بينه وبين غيره من الأحاديث التي تنفي قطع الخائن حمل بعضهم الأمر بالقطع على التهديد مستدلا بأن الوعيد قد ينفذ وقد لا ينفذ، وكلامه صحيح لكن ليس هنا لأن القصة واحدة وفيها ذكر السرقة، ولما أمر صلى الله عليه وسلم بقطع يدها وشفعوا فيها أسامة حبه وابن حبه غضب صلى الله عليه وسلم لشفاعته في حد من حدود الله؛ كما ذكر مسلم في الصحيح عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أتشفع في حد من حدود الله؟) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال (أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.

قال يونس قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يباشر إقامة الحدود بنفسه وإنما يأمر بتنفيذها فتنفذ كما هنا، وكما في شأن امرأة العسيف وفي قصتها قوله صلى الله عليه وسلم : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. متفق عليه واللفظ لمسلم, وعند البخاري فاعترفت فرجمتها . وما كان صلى الله عليه وسلم ليأمر بأمر لا يريد نفاذه وإيقاعه سيما إذا كان حدا من حدود الله فإنه لا يملك العفو فيه, بخلاف ما كان حقا له هو كأمره بقتل بعض المشركين وعفوه عن بعضهم بعد ذلك كما في قصة عبد الله بن أبي سرح, وفيها أنه لما أهدر دمه وفتح صلى الله عليه وسلم مكة فبايعه الناس جاء به عثمان لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبايعه حتى أعاد عليه ثلاثا فبايعه، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله, فقالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك, قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين. والقصة عند النسائي وغيره, فعفا عنه بعدما أمر بقتله حيث وجد لما كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثة آخرون قتل اثنان منهما وبقي الثالث وهو عكرمة بن أبي جهل, فقد أسلم وعفي عنه أيضا. ولم يكن ذلك حدا لله، فأما الحدود فلا عفو فيها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لصفوان يوم عفا عمن سرق رداءه وقد رفعه إليه فهلا كان قبل أن تأتيني به! وهذه قصته كاملة كما عند النسائي وغيره عن عبد الله بن صفوان عن أبيه أنه: نام في المسجد وتوسد رداءه فأخذ من تحت رأسه, فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول الله لم أرد هذا ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا قبل أن تأتيني به. قال الشيخ الألباني : صحيح. فالعفو في الحدود لا يقبل لأنها حق لله.

وهنالك شبهة أخرى يذكرها بعض الجهال فيقولون: القطع ليس صريحا في إزالة العضو ويمكن حمله على العطاء، وهذا غير صحيح ولا يمكن هنا لأن القطع بالعطاء مجاز، ولابد من وجود مانع من إرادة المعنى الحقيقي مع وجود قرينة صارفة عنه إلى المعنى المجازي وليس ذلك في شيء من الأدلة هنا, بل كلها تقتضي القطع الحقيقي وهو إقامة الحد الشرعي لما اقترن بها من الجزاء والنكال واللعن ولا يكون ذلك في العطاء, ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بالقطع أو الرجم أو الجلد ولم ينفذ الصحابة ذلك, بل المنقول أنهم نفذوه، ولم يقل: إنما قصدت إغناءه عن السرقة بالعطاء أو إغناءه بالتزويج عن الزنى وهكذا, وإنما هي شبه يقذفها الشيطان في قلوب أعوانه ليصدوا بها ضعفة العقول عن الحق، ولا تصلح دليلا ولا حتى احتمالا يتأول لصاحبه فهي باطل صريح وقول قبيح.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني