الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأسوة الحسنة (2)

الأسوة الحسنة (2)

الأسوة الحسنة (2)

عشنا في الجزء الأول بعضاً من اللطائف الماتعة، والأخلاق الرقراقة، والمواقف الخالدة لخير البشريّة ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ .
واليوم نقفُ مع أخلاقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من خلال حياته مع أهله، فقد جعل ـ عليه السلام ـ مقاييس الأخلاق الإسلامية حسن معاملة الرجل لأهله، معاملةً تحفظ حقوقهم، وتضمن لهم الراحة النفسية، والعيش السعيد، فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزوجَ المثالي في المعاشرة والتوادد، بما يقدّمه من أرقى أمثلة الأسوة، ويتبين ذلك مما يلي :

حسن المعاشرة :

فقد كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يحسن معاشرة زوجاته بالمعروف، لم يُلحق ضرراً بإحداهنّ قولاً وفعلاً : كالغلظة في القول، أو الحطّ من المنزلة، أو جرح الكرامة، فكان يتأنّق ويتجمّل لهن، ويجمعهنّ في بيت صاحبة المبيت، فيجلس بينهنّ فيأنسن به ويأنس بهنّ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ) رواه الترمذي .
وعن عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ما رأيتُ أحدًا أَكثرَ تبسُّمًا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) رواه الترمذي .

العدل بين الزوجات :

في السكن والزيارة : فكان لكلّ واحدةٍ منهنّ بيتها الخاصّ،فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا صلّى العصر زار كل واحدةٍ منهنّ، واطّلع على حالها، وقضى لها ما كانت بحاجةٍ إليه، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يفضل بعضنا على بعض في القَسْم مِنْ مُكثه عندنا ) رواه أبو داود .

في المبيت والنفقة :

وقد حرص ـ صلى الله عليه وسلم ـ على العدل مع زوجاته، فرغم التفاوت بينهن في السنّ والجمال، لم يكن يصرفه شيء من ذلك عن العدل بينهن، فلكل واحدةٍ منهن حق المبيت، ولذلك كان يراعي المساواة فيه، وطالما هو حقٌّ، فليس له أن يسقطه دون إذن صاحبته، مما دفعه ـ عندما أثقله المرض ـ إلى استئذان نسائه ليمرَّض في بيت عائشة ـ رضي الله عنها ـ .

في السفر :

ولما كانت الزوجة تحب أن تكون مع زوجها في كل أحواله وأحيانه، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أراد السفر أقرَعَ بين نسائه، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه .

مساعدة زوجاته :

فمن أخلاقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لم يكن يرى غضاضةً في مساعدة الرجل لزوجته في أمور البيت، على عكس كثير من رجال زماننا مما لا يحرك جفناً حين يرى زوجته قائمة بشؤون البيت تاعبةً في توظيبه ، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن الأسْود أنه قال : قلتُ لعائشة : ما كان رسول الله يصنع في بيته ؟، قالت : ( كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج فصلّى ) رواه الترمذي .

معالجة القضايا الأسرية بالحكمة والإرشاد الإلهي :

وقد عاش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياةً عاديةً مع زوجاته، وكان من الطبيعي أن تقوم بعض القضايا في الحياة الزوجية، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعالجها إمَّا بالوحي الذي يُرشده إلى التصرّف السليم، أو بما عُرِفَ به من حكمة .

معاملته لأبنائه :

وإضافةً لكلّ ما سبق فقد كان من أخلاقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أولاده الرحمة بهم، والرعاية لهم، والتربية على هدي الإسلام وقيمه، فكان يلعب مع أبنائه إشباعاً لمناحي شخصيتهم، فعن أنسٍ بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرحم النّاس بالصّبيان والعيال ) رواه ابن عساكر .

معاملته لخدمه :

إن معاملة الإنسان لخدمه تعتبر أدقّ مقياسٍ لنفسية وأخلاق هذا الإنسان، لأنه لا رادع له فيها إلا رقيبَ الخلق، والدين، فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتخلّق بمكارم القرآن، لم يثبت عليه أن تأفَّفَ من خادمه، وهو أقلّ ما يعبَّر به عن الاستياء، وعدم الرضى والسّخط، فبالأحرى الشّتم أو الضّرب، بل كان لا يأنف من السير إلى خدّامه ليزورهم في بيوتهم، فيمكث فيها ويداعب أطفالهم، ويدخل المسرّة على نفوسهم، وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : ( خدمت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشر سنين، فما قال لي أفٍّ قطّ، وما قال لشيء صنعتُه، لم صنعتَه، ولا لشيءٍ تركتُه، لم تركتَه ) رواه أبو داود، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( ما ضرب رسول الله بيده خادماً قطّ، ولا امرأةً ولا ضرب بيده شيئاً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا انتقم لنفسه من شيءٍ يؤتى إليه، حتى تُنتهك حرُماتُ الله، فيكون هو ينتقم لله ) رواه أحمد .

ومن هنا كانت سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهجاً يكفل سلام الأسرة والمجتمع، فأخلاقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا الجانب تدفع كلاًّ من الزوج والزوجة إلى أن تكون علاقتهما الزوجية مبنيّةً على أساس المودّة والرّحمة والتساكن، واحترام الضوابط الأخلاقية، كما يكفل الحقوق الشرعيّة لجميع أفراد الأسرة، ليعمّ السلام والأمن الاجتماعي ، فالفرد الذي لا يستمتع في بيته بالسلام لن يعرف له قيمةً، ولن يكون عامل سلامٍ في مجتمعه .
كما أن سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهجٌ لتحسين العلاقات الاجتماعية ، وتعتبر نموذجاً حيّاً في العلاقات الإنسانية الراقية، المؤسَسَة على العفو، والتسامح، والإحسان، والتكافل بشتى صوره وحاجاته، وغيرها من القيم التي تكوّن النظام الأخلاقي والاجتماعي في الإسلام، وعلى المسلم أن يمتثلها في حياته الاجتماعية لما تحققه فيها من توازنٍ مادّيٍ وروحيٍّ، ومن انسجامٍ مع وجوده، وهويته الدينية والحضارية .
وكل هذا مصداق قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا }(الأحزاب الآية: 21) .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

أبو عبد الرحمن الإدريسي

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة