الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أخوّة الأنبياء

أخوّة الأنبياء

أخوّة الأنبياء

تقوم بين الناس علاقات متباينة تقرّبهم من بعضهم وتوحّدهم، حتى تترقّى هذه العلاقات من درجة الصداقة إلى أخوّةٍ تشبه تآخي الناس من أب وأم، فهم متآخون مترابطون فيما بينهم كأنّهم من أصلٍ واحد يجمع بينهم ويظلّلهم تحت مظلّة واحدة.

وإذا كان الناس يتفاخرون فيما بينهم بهذه الصلات لأجل ما تحمله في طيّاتها من معاني الاتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف، فكيف برابطة الأخوة الإيمانيّة التي هي الرباط الحقيقي بين جماعة المؤمنين، والعنوان المعبر عن ماهية الإيمان؟ بل كيف إذا كانت هذه الرابطة الإيمانيّة معبّرةً عن نوعٍ خاص من الوثائق والصلات قامت بين صفوةٍ بشريّةٍ اصطفاها خالقها للقيام بأعظم مهمةٍ في الوجود: الواجب الرسالي؟

ألا إنه ليس ضرباً من الكلام أو نوعاً من الأوصاف المجرّدة أن يخصّص النبي –صلى الله عليه وسلم- جزءاً من حديثه لبيان الروابط المتينة بين سلاسل الأنبياء، وليس الحديث هنا عن روابط المحبّة القائمة بين الأنبياء محبّة لبعضهم وإجلالاً، بل هو أمرٌ أعظم من ذلك وأعمق، له دلالاتٌ عقديّة لا ينبغي أن تخفى على أحد، ونستنبطها من قول من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

والمقصود هنا هو الكلام عن حديث أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد) متفق عليه، فإلى الكلام عن أخوة الأنبياء، ووحدة الدين، وتعدّد الأمهات، ودلالات كلّ ذلك:

الأنبياء أخوة

قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (الأنبياء إخوة لعلاّت) وفي رواية أخرى صحيحة: (أبناء علاّت)، وهذا التعبير قد يكون غريباً على مسامعنا نتيجةً للعُجمة التي أصابتنا في العصور المتأخّرة، فإذا رجعنا إلى كلام الحافظ ابن حجر وجدناه يقول: "الأنبياء إخوة لعلاّت، والعلاّت بفتح المهملة: الضرائر، وأصله أنّ من تزوّج امرأةً ثم تزوج أخرى كأنه عَلّ منها، والعَلَل: الشرب بعد الشرب، وأولاد العلاّت: الإخوة من الأب".

إذن فالقصد تشبيه الأنبياء عليهم السلام بالوالد الذي تزوّج عدّة نساء فأنجبْنَ أولاداً، فالأولاد أخوةٌ من جهة الأب، وهذا تعبيرٌ نبوي دقيق لأنه يوميء إلى اشتراك الأنبياء عليهم السلام من جهةٍ، واختلافهم من جهةٍ أخرى، وليس الأمر اتفاقٍ وافتراق فحسب، ولكنه اتفاقٌ مبني على أخوّة.

ومعالم هذه الأخوّة ظاهرةٌ بين الأنبياء عليهم السلام وانظر إلى ما جاء في السنّة يأتيك نبأ هذه الأخوة بيقين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يهود: (من محمد رسول الله أخي موسى وصاحبه، بعثه الله بما بعثَه به..) رواه البيهقي، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: ( أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى) رواه الحاكم بهذا اللفظ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: (عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه) رواه الطبراني، وفي قصّة المعراج حين رأى النبي عليه الصلاة والسلام موسى وهارون، وعيسى ويحيى، وإدريس ويوسف عليهم السلام، تطابقت كلماتهم ترحيباً بخاتم الأنبياء: (مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح) متفق عليه.

ويمكن القول: إن أخوّة الأنبياء تقتضي تساوي الحقوق الواجبة علينا تجاههم، وأوّل ذلك بلا شك: الإيمان بهم جميعاً دون تفريق، ولذلك عاب الله على من فرّق بينهم من جهة الإقرار والإيمان، قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} (النساء: 150 – 151)، فهنا شهد الله سبحانه بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل، ويكفرون ببعض، فلم يَجُزْ مع ذلك أن يُطلق عليهم اسم الإيمان أصلاً بل أوجب لهم اسم الكفر بنص القرآن.

ومن تساوي الحقوق: وضعهم جميعاً في مقامٍ واحد من حيث الاحترام والتقدير وعدم الدخول في معارك كلاميّة في المفاضلة بينهم على وجهٍ يستنقصُ الآخرين منهم، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لا تخيّروني على موسى) متفق عليه، وفي حديث آخر أعمّ وأشمل: (لا تفضلوني على الأنبياء) متفق عليه، وهذا كلّه إن كان على وجه الحميّة والعصبيّة.

دينـهم واحد

هذا هو الشق الأوّل من التشبيه بالإخوة من الأب، فهو مثلٌ ضربه الرسول -صلى الله عليه وسلم- تأكيداً على مسألة اتفاق الرسل في الدين الواحد.

والدين الواحد هنا: الأصل الكبير الذي جمع دعوة الأنبياء جميعاً، ألا وهو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، وما يتضمّنه ذلك من الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد إلى الله بالطاعة، وهذا الدين هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، كما قال عزّ وجل: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19)، وقال عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} (البقرة:131)، وعن موسى عليه السلام: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} (يونس:84)، وأُخبر عن أنبياء بني إسرائيل بالآية الكريمة: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} (المائدة: 44)، وجاء الوصف الخاص بقوم لوط عليه السلام: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين* فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} (الذاريات:35-36).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم هو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادته تعالى في كل زمان ومكان، بطاعة رسله عليهم السلام، فلا يكون عابداً له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله، ولا يكون مؤمنا به إلا من عبده بطاعة رسله، ولا يكون مؤمناً به، ولا عابداً له إلا من آمن بجميع رسله، وأطاع من أرسل إليه، فيُطاع كل رسول إلى أن يأتي الذي بعده، فتكون الطاعة للرسول الثاني".

وأمهاتهم شتّى

وهذا هو القسم الثاني من التشبيه، والذي جاء لبيان الفروق الحاصلة بين حال الأنبياء من جهة تعدّد الشرائع وتنوّعها واختلافها، كأنهم أخوة لأبٍ واحد، وأمهات مختلفة، فمعنى الحديث: أنّ أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع.

وقد ذكر الطيبي في شرح الحديث، أن المقصود من الوصف بيان أن الغاية القصوى من البعثة التي بُعث الأنبياء جميعًا لأجلها دعوة الخلق إلى معرفة الحق، وإرشادهم إلى ما به ينتظم معاشهم ويحسن معادهم، فهم متفقون في هذا الأصل، وإن اختلفوا في تفاريع الشرع التي هي كالطرق المؤدية للإسلام والأوعية الحافظة له، فعبر عما هو الأصل المشترك بين الكل بالأب ونسبهم إليه، وعبر عما يختلفون فيه من الأحكام والشرائع المتفاوتة بالأمهات، فإنهم وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أيامهم فالأصل الذي هو السبب في إخراجهم وإبرازهم أمر واحد، وهو الدين الحق الذي فطر الناس مستعدين لقبوله ممكنين من الوقوف عليه والتمسك به.

وبعد إدراك هذه العلاقة وفهم التلازم بين هذه المسائل الثلاث، ينتظم المنهج الحق في التعامل بين الأنبياء، وتتضح الصورة الكليّة حول أصل دعوتهم وفروع شرائعهم، وأن هذا التنوّع قائمٌ على أساس إدراك أن الله جل وعلا يشرع لكل نبي ما يناسب قومه ويناسب مصالحهم، ثم ينسخ الله لأمة أخرى بحسب مصالحها، حتى استقرّ الأمر في الشريعة الخالدة إلى يوم القيامة: ما جاء به سيد الأنبياء وخاتمهم: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) رواه مسلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة