الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قانون العظمة الإلهية: {والله غالب على أمره}

قانون العظمة الإلهية: {والله غالب على أمره}

قانون العظمة الإلهية: {والله غالب على أمره}

في البيان القرآني نجد عدداً من القوانين العظيمة الثابتة، التي تجري الحياة على وفقها وإيقاعها، ومن أعظم هذه القوانين القانون الذي ورد في سورة يوسف عليه السلام، وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فلننظر في الدلالات الرائعة لهذا القانون القرآني العظيم:

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] أي: والله غالب على أمره لا يغلبه فيه أحد، وهذه الآية وردت في سورة يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، وفيها بين الله تعالى أنه غلب على أمر يوسف-عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-، يسوسه ويدبّره ويحوطه، ويقلبه كيف شاء بما يؤدي إلى رفعته بعد إصابته بالضراء، وهو الذي يبني فيه الـمَلَكةَ التي بها يُصلح حال الأرض وينصف البؤساء.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: إن أكثر الناس لا يطلعون على غيب الله، وما في طيه من الأسرار العظيمة، والحِكَم النافعة العميمة، والتدبيرات الكريمة. وأيضاً، فإن {أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أنه تعالى غالب على أمره، بل يأخذون بظواهرِ الْأمورِ؛ إذ هم لا اطلاع لهم على ما خبأه الله لهم في الغيب المستور، كما استدل إخوة يوسف بإبعاده على أن يخلو لهم وجه أبيهم ويكونوا من بعد إبعاده عنهم قَوماً صالحين. وقد يكون المرء عالماً أن الله غالب على أمرِه، وأقواله صريحة في الدلالة على علمه، ولكن علمه بذلك نظري كلي إجمالي، لا يحيط بتفاصيل الجزئِيات المخبوءة في مطاوي الأقدارِ، ولا بكيفية وقوع الإرادة الغالبة للملك الجليل القهار.

قالت الحكماء في قوله سبحانه: {وَاللَّهُ غالب على أمرِه} لقد أراد يعقوب عليه السلام أن لا يكيدوا لأخيهم، فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد أخوة يوسف قتله، فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة، فيندرس اسمه، فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه، وصار مذكوراً مشهوراً، ثم إن الله دفع السيارة إلى الجب البعيد بما سببه لهم من احتياجهم للماء ليجدوه، ولينفذ قضاء الله ذي الجلال والكبرياء، ولهذا قيل: ألا ربّ تشويشٍ يقع فى العالم، والمقصود منه سكونٌ واحد، كما قيل: ربّ ساعٍ لقاعد، فيوسف في مكانه، والسيارة في خدمة إيوانه. ثم باعه السيارة ليكون مملوكاً، همه في بطنه، وفي حمل المتاع عليه، فغلب أمر الله تعالى حتى صار يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- مخدوماً مكرم المثوى كأبناء الملوك والعبيد بين يديه. ثم احتالت امرأة العزيز أن تدرأ التهمة عن نفسها، لتلصقها بالبريء المخبت القانت يوسف-عليه على نبينا أفضل الصلاة والسلام- وقالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25]، فغلب أمر الله تعالى حتى أنطق له شاهداً من حيث لم تحتسب، فإذا يوسف يزداد رفعةً في المقام الكريم، وينتقل ليعيش بين التكريم والتعظيم.

وقد قيل في حكم الأماثيل: العبرة لا ترى من الحقّ فى الحال، وإنما الاعتبار بما يظهر فى سرّ تقديره فى المآل.

ثم تدبّر يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- أن يتخلص من السجن بذكر الساقي، فغلب أمر الله تعالى حتى نسي الساقي ذكره {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]، حتى إذا لم يذكره أحد من الأولين والآخرين، غلب أمر الله تعالى، فأرسل الرؤيا لعقل العزيز، ليحوج القوم أن يبحثوا عن يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- فيكون لها سيد المعبرين. وفي تلك الأثناء أراد إخوة يوسف –عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- أن يـخلو لهم وجه أبيهم، فغلب أمر الله تعالى حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، متذكراً يوسف غير ناس ثَغْرَه وابتسامته. ثم أرادوا أن يغروه باسم القميص والدم والبكاء، فغلب أمر الله تعالى، فلم ينخدع أبوهم بما قالوه، واتضح الأمر بجلاء، وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18]، ثم احتالوا أن تذهب محبته من قبل أبيه، ويصبح كالمنسي القديم، فغلب أمر الله تعالى حتى ازدادت المحبة والشوق في قلبه {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]، ثم تدبّروا أن يكونوا من بعده قوماً صالحين تائبين، فغلب أمر الله تعالى حتى نسوا الذنب، وأصروا، حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد أربعين من السنين، فقالوا: {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، وقالوا لأبيهم: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97].

أجل إنه قانون: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].. ههنا يقف السياق لينبه إلى أن هذا التدبير من الله الملك الجليل الخلاق، وبه وبمثله قدّر ليوسف التمكين في الأرض؛ ليرتفع ذكره في السموات الطباق، وكانت اللأواء والشدة وما قاساه من العناء.. مقدمة لهذا المجد وللارتفاع في المكانة عند سميع الدعاء.. إنه الافتقار والاحتياج إلى الله الغالب.. تجعل العبد القانت مرتفعاً في المطالب والمناقب، ويرى على شدة الظلمة الفرج يلوح، ويشاهد بأنسه بربه انبلاج الفجر بشذاه يفوح، وقد ظن المشركون أنهم غلبوا على أمرهم، لما منعوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- من عمرة الحديبية، فغلب أمر الله تعالى حتى سمى ذلك المنع فتحاً مبيناً، ومكن للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- به تمكيناً، وفي ذلك قيل:

تبـارك من أعطــــى محمـــدا الاسـرا واحصره في عــــام عــــمـــرته قــــســــرا

فسُرَّ بـــذاكَ الـمــــــــشركون لجهلهم وعــــــــز علَـــــــى قَوم وقَد شهـدوا بــــدرا

أذاقـــكــــم فَـــــقـــراً إلَيــه لتعلــمـــوا بـأن الغنــا المقصود أن تطعمـــوا الفَقــرا

فَمــن لم يــذق هذا الغــــنا في حياتــه فقـــد عــاش مسكـــيناً وإن مـــلك الأمــــرا

ومــا امتحــن الله الكـــليــــم بفـــعــــله وخدمته للشــــــاء في مــــــدين عــــشـــرا

ليقضــي من مهرِ الزواجـــــــــة حَقـه ولكن ليقــــــــضي للمكاَلـــــــــمة المــــهرا

ومــا كــان إبراهِيــم في المنجنِيـــق والـ ـلظـى عـــادماً لطـــفاً ولا نـاقصــاً قَـــدرا

ولا ظمئت في الواد هَـــــــاجر وابنها هوانـاً على من يمــلك السحــــب والقَطــــرا

ولا بيع بالبـــــخس الـــمكرم يـــــوسف ليمــــلك لكــــــن حكمــــــــــه لِيلي مصرا

وفيـــما رأى يعقــوب من فَقــد يـــوسف مواعـــظ تشفــي مــن ملاحظــها الصــدرا

إنها قدرة الله الغالبة، لا تقف في طريقها قوة، وهو سبحانه وتعالى مالكُ أمره، فلا يخيب ولا يتوقف ولا يضل، {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ}.

وقد ربى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه على هذه العظمة الإيمانية في الشعور بتدبير الله للكون، ومن أشهر المواقف ما رواه أحمد والبزار عن عُبيد بن رِفاعة الزرقي عن أبيه -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (استووا حتى أثني على ربي) فصاروا خلفه صفوفاً، فقال: (اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذٌ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان، وزَيِّنه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق).

إنها رحلة اليقين العظيمة في ثنايا القانون الثابت الذي لا يتغير -لو كان المترددون يفقهون-.. قانون: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة