الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ويغفر لمن يشاء

ويغفر لمن يشاء

ويغفر لمن يشاء

من نظائر القرآن الكريم الآيتان التاليتان:

قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير} (المائدة:40).

قوله عز وجل: {ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما} (الفتح:14).

فقد قدَّم في آية سورة المائدة ذكر (التعذيب) على ذكر (المغفرة) وقدَّم في آية سورة الفتح ذكر (المغفرة) وأخَّر ذكر (التعذيب) فما وجه هذا التقديم والتأخير بين الآيتين؟

أجاب ابن الزبير الغرناطي عن هذا السؤال بما حاصله: أنه لما تقدم في آية المائدة قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (المائدة:33) وقوله سبحانه: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (المائدة:38) وقد وقع في الآيتين ذكر عقوبة الطائفتين ممن حارب، أو سرق مقدماً؛ فقيل في الطائفة الأولى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} فهذا ما يُعَجَّل لهم عقوبة في الدنيا، ثم أخبر سبحانه بوعيدهم الأخروي، وجزائهم إن هم ماتوا على فعلهم هذا، مستحلين ذلك الفعل، أو غير مستحلين، إن أنفذ الوعيد عليهم، وأعقب تعالى بذكر الصفح عنهم، إن تابوا قبل أن يُقْدَر عليهم، بما أفاده الاستثناء {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (المائدة:34) وأشار إليه قوله تعالى: {فاعلموا أن الله غفور رحيم}.

وقيل في الطائفة الثانية: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ثم قال: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح} فأشار إلى أن من تاب من بعد ظلمه، وأصلح من عمله، فإن الله يتوب عليه. فقد تقدم في هاتين الآيتين ذِكْر الجريمتين قبل ما به يكون رجاء الغفران، وهذا في مآلهم الدنيوي، ثم أعقب الآية التي أخبر فيها سبحانه بانفراده بـ {ملك السماوات والأرض} وأنه تعالى {يعذب من يشاء} فقدَّم ذكر (العذاب) على (المغفرة) تنظيراً لما تقدم، ومقابلة تطابق ما أخبر عنه؛ إذ كل ذلك بقدره تعالى، وسابق مشيئته، فهذا وجه تقديم (العذاب) على (المغفرة) في آية المائدة.

وأما آية سورة الفتح فقد تقدمها قوله تعالى: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا} (الفتح:13) وبـ (الايمان) رجاء (الغفران) وهو مُنَاط به وناتج عنه، كما أن (العذاب) مرتبط بالكفر ومُنَاط به، فتقدم في هذه الآية مُثْمِرُ (الغفران) -وهو الإيمان- وتأخر موجب (التعذيب) وهو الكفر والخذلان، ثم أعقب تعالى بقوله: {ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فناسب بين الآيتين بالتناظر في الجزاءين من (المغفرة) لمن رجع وأناب، و(التعذيب) لمن كفر وارتاب، وبحسب مشيئته سبحانه، وما قَدَّر لكل من الفريقين أولاً.

ووجَّه الآلوسي تقديم (العذاب) على (المغفرة) بآية المائدة بأكثر من وجه، فقال: "تقديم التعذيب على المغفرة في آية المائدة؛ لأن (التعذيب) للمُصِرِّ على السرقة، و(المغفرة) للتائب منها، وقد قُدِّمت (السرقة) في الآية أولاً، ثم ذُكِرت (التوبة) بعدها، فجاء هذا اللاحق على وَفَق وترتيب السابق. أو لأن المراد بـ (التعذيب) القطع، وبـ (المغفرة) التجاوز عن حق الله تعالى، والأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فجيء به على ترتيب الوجود. أو لأن المقام مقام الوعيد، فناسبه تقديم ذكر (التعذيب). أو لأن المقصود وصفه تعالى بـ (القدرة) و(القدرة) في تعذيب من يشاء، أظهر من القدرة في مغفرته؛ لأنه لا إباء في (المغفرة) من المغفور، وفي (التعذيب) إباء بيِّن".

وعلل الفيروز آبادي الفرق بين الآيتين بقوله: "لأنها -أي آية سورة المائدة- نزلت في حق السارق والسارقة، وعذابهما يقع في الدنيا، فقدَّم لفظ (العذاب) وفى غيرها، قُدِّم لفظ (المغفرة) رحمة منه سبحانه، وترغيباً للعباد في المسارعة إلى موجبات المغفرة".

وقال الرازي: "إنما قدَّم (التعذيب) على (المغفرة) لأنه في مقابلة تقدم (السرقة) على التوبة".

وقال أبو السعود: "وتقديم (التعذيب) على (المغفرة) لمراعاة ما بين سببيهما من الترتيب".

وهذه الأجوبة والتوجيهات قريبة التعليل والتوجيه، ولا تعارض بينها، وهي قائمة في الأساس على مراعاة النظم القرآني، والتأمل في سياقه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة