الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا

وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا

وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا

الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله ورد في العديد من الآيات القرآنية، وورد بألفاظ متعددة، من ذلك ما جاء في قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (المائدة:92). وجاء في آية أخرى قول الحق تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين} (التغابن:12). وحديثنا في هذه السطور ينطلق من سؤالين اثنين:

الأول: أن الآية الأولى وردت فيها زيادة قوله سبحانه: {واحذروا} وزيادة قوله تعالى: {فاعلموا} في حين أن الآية الثانية خلت من هاتين الزيادتين مع اتحاد ما تضمنته الآيتان من الأمر بطاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الإعراض عن ذلك والتولي، فما وجه هذه الزيادة؟

الثاني: أن الأمر بطاعة الله ورسوله ورد في القرآن الكريم بصور متعددة؛ فمرة نجده سبحانه يقول: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (المائدة:92) ونحو هذه الآية في سور: النساء، والنور، ومحمد، والتغابن. ومرة يقول تعالى: {وأطيعوا الله والرسول} (آل عمران:132) ونحو هذا في سورتي الأنفال والمجادلة. ومرة يقول سبحانه: {وأطيعوا الرسول} (النور:56) ومرة واحدة فقط يعطف على ذلك {أولي الأمر} فيقول جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (النساء:59) فما وجه تعدد صيغ الأمر بطاعة الله ورسوله على النحو الذي أسلفنا؟

أجاب ابن الزبير الغرناطي عن السؤال الأول بما حاصله: إن آية سورة المائدة جاءت عقيب آية الأمر باجتناب الخمر وما ذكر معها، ثم أتبع سبحانه بعد ذلك بذكر العلة في تحريمها، فقال عز من قائل: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (المائدة:91) فلما خُتمت من التهديد بما يُشْعِر بشديد الوعيد، ناسب ذلك قوله سبحانه: {فاحذروا} وقوله تعالى: {فإن توليتم فاعلموا} تأكيداً لما تقدم من الإشعار بمخوف الجزاء.

أما آية سورة التغابن فلم يرد قبلها ما يستدعي هذا التأكيد؛ إذا تقدمها قوله عز وجل: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} (التغابن:11) فليس هنا نَهْيٌ عن محرم، ولا تهديد ولا وعيد، فلما لم يرد هنا نهي عن محرم متأكد التحريم، وما يستتبع النهي من التهديد والتأكيد، لم يرد هنا من الزيادة المفيدة لمعنى التأكيد ما ورد هناك، فجاء كل على ما يجب ويناسب، وليس عكس الوارد بمناسب.

وقد ذكر ابن عاشور عند تفسيره لآية سورة التغابن، أنه سبحانه جاء في آية المائدة بقوله: {فاعلموا} للتنبيه على أهمية الخبر، كما في قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} (البقرة:223) فقد أمر سبحانه عباده المؤمنين أن يعلموا أنهم {ملاقوه} مع أن المسلمين يعلمون ذلك؛ تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن؛ ليُزاد من تعليمهم اهتماماً بهذا المعلوم، وتنافساً فيه.

على أن (التحذير) في قوله سبحانه: {واحذروا} الغرض منه -كما قال الشيخ الشعرواي- أن يعلم العبد أن الشيطان لن يدعه يدخل في مجال طاعة الله وطاعة الرسول، وسيحاول جاهداً أن يُلَبِّس عليه الأمر. فعندما يعلم الشيطان ميلاً في نفس إنسان إلى لون من الشهوات، يدخل إليه من باب المعاصي. وإن كان الإنسان قد أوصد بعض السبل أمام الشيطان، فلا يستطيع مثلاً إغراءه بالسرقة، أو شرب الخمر، أو الزنى، لا يتركه وشأنه، بل يدخل إليه من باب الطاعة، فمثلاً، يأتي الشيطان إلى الإنسان لحظة الوضوء، وينسيه هل غسل هذه اليد، أو تلك، وهل أسبغ الوضوء، أم لا؟ أو يأتي الشيطان إلى المؤمن لحظة الصلاة، فينسيه عدد الركعات، أو عدد السجدات، وهكذا يدخل الشيطان على العبد من ناحية الطاعة.

إذن، فمعنى قوله سبحانه: {واحذروا} أي: احذر أيها العبد أن يحتال الشيطان عليك؛ لأنه سيحاول أن يدخل عليك من كل مدخل، يدخل على المسرف على نفسه بالمعصية، وأشد أعمال الشيطان على المؤمنين هي أن يدخل عليهم من باب الطاعة؛ ولذلك قال الحق: {واحذروا} وكثيراً ما نجد الإنسان منا ينسى موضوعاً ما، وحين يأتي إلى الصلاة، فهو يتذكر هذا الموضوع. والشيطان لا يترك الإنسان في مثل هذه الحالة، فقد أقسم كما أخبر سبحانه عنه بقوله: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} (ص:82). وقال عز وجل: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (الأعراف:16).

إنه أقسم أن يقف على الطريق المستقيم لا على الطريق المعوج. ومثال ذلك عندما يتصدق إنسان بصدقة، قد يعلنها ويقول: لقد تصدقت أكثر من فلان. وهكذا يضيع منه الأجر. الشيطان يحاول -إذن- أن يدخل علينا من باب لا نفطن إليه وهو باب الطاعة.

أما الجواب عن السؤال الثاني فقد أجاب عنه الشيخ الشعراوي بما حاصله: إن الحق سبحانه إذا قال: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} تكون طاعة الله في الحكم العام، وطاعة الرسول في تفصيل الحكم، والمثال على هذا قول الحق سبحانه: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران:97)، هنا نطيع الله في الحكم العام وهو فَرْض الحج على المستطيع، ونطيع الرسول في تفصيل أعمال الحج؛ لأن التفصيل لم يأت في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني مناسككم) رواه البيهقي في "السنن الكبرى". وعندما يقول سبحانه: {وأطيعوا الله والرسول} فهذا يعني أن هناك أمراً واحداً قد صدر من الله، وصدور الفعل وحصوله من الرسول صلى الله عليه وسلم يكون للقدوة والأسوة وتوكيداً للحكم.

وإذا كان الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، ولم يرد فيه شيء من الله، فهو أمر صدر بتفويض من الله بناء على قول الحق تعالى: {ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر:7). وهكذا نجد أنه لا تلتبس طاعة بطاعة، ولا تتناقض طاعة مع طاعة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة