الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عن مواضعه..من بعد مواضعه

عن مواضعه..من بعد مواضعه

عن مواضعه..من بعد مواضعه

في حديث القرآن الكريم عن اليهود وأفعالهم نقرأ قوله سبحانه: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} (النساء:46)، ونقرأ أيضاً قوله سبحانه في حق اليهود أيضاً: {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} (المائدة:41)، فالآية الأولى عُدِّيت بحرف الجر (عن)، ولم يُذكر فيها ظرف الزمان (بعد)، في حين أن الآية الثانية عُدِّيت بحرف الجر (من)، وذُكر فيها ظرف الزمان (بعد). فهل ثمة من دلالة لهذا التغيير اللفظي في الآيتين؟

يذكر بعض المفسرين توجيهاً لهذا الفرق بين الآيتين، نسوقه على النحو التالي:

قال الزمخشري: أما قوله: {عن مواضعه} فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأما {من بعد مواضعه} فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو جدير بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره. قال: والمعنيان متقاربان.

وقال الرازي: الفرق أنا إذا فسرنا (التحريف) بالتأويلات الباطلة، فقوله: {يحرفون الكلم عن مواضعه} معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب. وأما قوله سبحانه: {من بعد مواضعه}، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة، وكانوا يخرجون اللفظ أيضاً من الكتاب، فقوله: {يحرفون الكلم} إشارة إلى التأويل الباطل، وقوله: {من بعد مواضعه} إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.

وقال أبو حيان الأندلسي بعد أن ذكر توجيه الزمخشري : والذي يظهر أنهما سياقان، فحيث وُصفوا بشدة التمرد والطغيان، وإظهار العداوة، واشترائهم الضلالة، ونقض الميثاق، جاء: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، ألا ترى إلى قوله: {ويقولون سمعنا وعصينا}، وقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه}، فكأنهم لم يتركوا {الكلم} من التحريف عن ما يراد بها، ولم تستقر في مواضعها، فيكون التحريف بعد استقرارها، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة. وحيث وُصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر، جاء: {من بعد مواضعه}، ألا ترى إلى قوله: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}، وقوله بعد: { فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم}، فكأنهم لم يبادروا بالتحريف، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار {الكلم} في مواضعها.

ونقل القاسمي عن بعض أهل العلم توجيه الآية، فقال: الظاهر أن {الكلم} المحرف، إنما أريد به في سورة النساء: {غير مسمع}، و{راعنا}، ولم يقصد هنا تبديل الأحكام. وتوسطها بين الكلمتين، بين قوله: {يحرفون} وقوله: {ليا بألسنتهم}، والمراد أيضاً تحريفٌ مشاهدٌ بيِّنٌ على أن المحرَّف هما وأمثالهما. وأما في سورة المائدة فالظاهر أن المراد فيها بـ {الكلم} الأحكام، وتحريفها تبديلها، كتبديلهم الرجم بالجلد، ألا تراه عقبه بقوله: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}، ولاختلاف المراد بـ {الكلم} في السورتين، قيل في سورة المائدة: {يحرفون الكلم من بعد مواضعه}، أي: ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه، فصار وطنه ومستقره، إلى غير موضع، فبقي كالغريب المتأسف عليه، الذي يقال فيه: هذا غريب من بعد مواضعه ومقارِّه. ولا يوجد هذا المعنى في مثل {غير مسمع}، و{راعنا}، وإن وُجد على بعد، فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه، كالوضع الشرعي. ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره؛ فلذلك جاء في النساء: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف.

وقال ابن عاشور: قال في المائدة: {من بعد مواضعه}، وقال في النساء: {عن مواضعه}؛ لأن آية سورة النساء في وصف اليهود كلهم، وتحريفهم في التوراة، فهو تغيير كلام التوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التّوراة أو في ألفاظها. فكان إبعاداً للكلام {عن مواضعه}، أي إزالة للكلام الأصلي، سواء عوض بغيره أو لم يعوض. وأما آية المائدة {من بعد مواضعه}، فقد وردت في ذكر طائفة معينة أبطلوا العمل بكلام ثابت في التوراة إذ ألغوا حكم الرجم الثابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام، فهذا أشد جرأة من التحريف الآخر، فكان قوله: {من بعد مواضعه} أبلغ في تحريف الكلام؛ لأن لفظ {بعد} يقتضي أن مواضع الكلم مستقرة، وأنه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التوراة.

وقال الشيخ الشعراوي في توجيه قوله سبحانه: {يحرفون الكلم عن مواضعه}: فكأن المسألة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله، وُضع أولاً وضعه الحقيقي، ثم أزالوه، وبدلوه، ووضعوا مكانه كلاماً غيره، مثل تحريفهم الرجم، بوضعهم الحد مكانه. أما قوله تعالى: {من بعد مواضعه}، فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق، ووضعوه موضع الباطل بالتأويل، والتحريف حسب أهوائهم، بما اقتضته شهواتهم. فكـأنه كانت له مواضع، هو جدير بها. فحين حرفوه، تركوه كالغريب المنقطع، الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.

وأنت تلحظ أن جميع التوجيهات اتجهت إلى الحديث عن آية النساء وآية المائدة الثانية، ولم تتعرض للحديث عن آية المائدة الأولى؛ كونها مشابهة لآية النساء، وواردة في الموضوع نفسه.

ثم إن جميع ما قيل من توجيهات في الآيتين الكريمتين قريب من جهة المعنى، وهي تفيد في المحصلة أن قوله سبحانه: {يحرفون الكلم عن مواضعه} يدل على أنهم حرفوا الكلام قبل أن يستقر، وأن قوله تعالى: {يحرفون الكلم من بعد مواضعه}، يدل على أنهم حرفوا كلام الله بعد أن استقر في {مواضعه}، واستخرجوه منها، وأهملوه، وأزالوه بعد أن وضعه الله فيها؛ وذلك بتغيير أحكام الله.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة