الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رسولاً من أنفسهم

رسولاً من أنفسهم

رسولاً من أنفسهم

تحدث القرآن الكريم عما أنعم به سبحانه على العرب بأن أرسل إليهم رسولاً من جنسهم، وذلك قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} (آل عمران:164)، وقوله سبحانه في آية أخرى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} (الجمعة:2).

ولسائل أن يسأل: إن مقصد الآيتين الإخبار بامتنانه تعالى على العرب، بأن أرسل إليهم رسولاً منهم، ولم يكن من غيرهم، ثم اختلفت العبارة في تبيان هذا المقصود؛ فقال في الآية الأولى: {من أنفسهم}، وقال في الثانية: {منهم } فما وجه هذا الاختلاف في التعبير، والمقصد واحد؟

أجاب ابن الزبير الغرناطي على هذا بقوله: إن قولك: فلان من أنفس القوم أوقع في القرب من قولك: فلان منهم؛ فإن هذا قد يراد للنوعية، ولا يكون لتقريب المنـزلة والشرف إلا بقرينة.

أما قولك: {من أنفسهم} فأخصُّ، فلا يحتاج إلى قرينة؛ ولذلك وردت حيث قصد التعريف بعظيم النعمة به صلى الله عليه وسلم على أمته، وجليل إشفاقه، وحرصه على نجاتهم، ورأفته ورحمته بهم، فقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة:128)، وقال تعالى فيمن كان على الضد من حال المؤمنين المستجيبين: {ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه} (النحل:113)، فقوله هنا: {منهم} لما قصد أنه إنعام عليهم، لم يوفقوا لمعرفة قدره، ولا للاستجابة المثمرة النجاة، فقيل هنا: {منهم}.

ولما كان لفظ الآيتين يتناول قريشاً وغيرهم من العرب ممن ليسوا من أهل الكتاب قيل: {منهم}، فناسب هذه الكناية بما فيها من دخول عموم المؤمنين من العرب ممن أسلم، ومن لم يسلم، ولما قال في آية آل عمران: {لقد من الله على المؤمنين} فخص من أسلم، ناسب ذلك قوله: {من أنفسهم}؛ لخصوصه، ولم يكن العكس فجاء في كل موضع بما يناسب حال المخاطبين.

وقال الكرماني في توجيه هذا الاختلاف بين الآيتين: قوله سبحانه: {رسولا من أنفسهم} بزيادة (الأنفس) وفي سورة الجمعة: {رسولا منهم} لأنه سبحانه منَّ على المؤمنين به، فجعله من أنفسهم؛ ليكون موجب المِنَّة أظهر، وكذلك قوله عز وجل: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة:128) لما وصفه بقوله تعالى: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} جعله من أنفسهم؛ ليكون موجب الإجابة والإيمان أظهر وأبين.

وقد ذكر ابن عاشور في هذا الصدد أن المراد بـ {المؤمنين} في آية آل عمران، المؤمنون يومئذ، وهم الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، بقرينة السياق، وهو قوله: {إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} أي: من أمتهم العربية، والعرب تقول: فلان من بني فلان من أنفسهم، أي: من صميمهم، ليس انتسابه إليهم بولاء أو لصق. قال: وهذه المِنَّة خاصة بالعرب، ومزية لهم، زيادة على المِنَّة ببعثة محمد على جميع البشر، فالعرب وهم الذين تلقوا الدعوة قبل الناس كلهم؛ لأن الله أراد ظهور الدين بينهم؛ ليتلقوه التلقي الكامل المناسب؛ لصفاء أذهانهم، وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعواناً على عموم الدعوة، ولمن تخلق بأخلاق العرب، وأتقن لسانهم، والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزية، وهو معظمها، إذ لم يفته منها إلا النسب والموطن، وما هما إلا مكملان لحسن التلقي؛ ولذلك كان المؤمنون مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة، بحيث إن تلقيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقر الدين.

وقد يكون من المفيد القول: إن المفسرين -فيما رجعنا إليه- لم يتعرضوا لبيان وجه الاختلاف بين الآيتين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة