الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الزهد النبوي

الزهد النبوي

الزهد النبوي

عاش نبينا صلى الله عليه وسلم زاهداً في الدنيا وملذَّاتها، مُعلماً الناس كيف يكون أكبر همِّهم الآخرة. والزهد في حقيقته هو الإعراض عن الشيء، ولا يطلق هذا الوصف إلا على من تيسر له أمر من الأمور، فأعرض عنه وتركه زهداً فيه، وأما من لم يتيسّر له ذلك، فلا يقال: إنه زهد فيه، ولذلك قال مالك بن دينار: "الناس يقولون مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها".

وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من فتنة الدنيا وزخرفها، فعن عمرو بن عوف رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) رواه البخاري.

والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا الأمثلة الكثيرة في بيان حقيقة الدنيا وقيمتها، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كنفتيه (عن جانبيه) فمر بجدي أسك (صغير الأذنين) ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) رواه مسلم. وعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار بالسبابة- في اليم فلينظر بِمَ يرجع؟) رواه مسلم.

قال ابن حجر: "فالدنيا بالنسبة إلى الآخرة لا قدْر لها، وإنما أورد ذلك على سبيل التمثيل والتقريب، وإلا فلا نِسْبَةَ بَيْن الْمُتَنَاهِي وَبَيْن ما لا يَتَنَاهَى، والى ذلك الإشارة بقوله: (فلينظر بم يرجع) ووجهه أن القدْر الذي يتعلق بالأصبع من ماء البحر لا قدْر له، وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، والحاصل أن الدنيا كالماء الذي يعلق في الأصبع من البحر والآخرة كسائر البحر".

وإذا تأملنا حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورأينا كيف كان بيته الذي يعيش فيه؟ وكيف كان فراشه ووسادته؟ وماذا كان يأكل؟.. فإننا سنرى عجباً في زهده صلوات الله وسلامه عليه، والأحاديث والمواقف الواردة في ذلك كثيرة، ومنها:

عن عروة رضي الله عنه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: (والله يا ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال -ثلاثة أهِلَّة في شهريْن- وما أُوقِد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قال: قلت: يا خالة! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه) رواه البخاري، وفي رواية لمسلم قالت: (إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهراً ما نستوقد بنار، إنْ هو إلا التمر والماء). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام حتى قُبِض (مات)" رواه البخاري.

ودخلت امرأة وابنتاها على عائشة رضي الله عنها يشكون الجوع، فما الذي وجدوه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟! تجيب عائشة رضي الله عنها فتقول: "فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة، فأعطيتُها إياها، فقسمَتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت، فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فأخبرته فقال: (من ابتُلِيَ من هذه البنات بشيء كن له ستراً من النار) رواه البخاري. ويصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حال النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلْتَوي، ما يجد دَقَلاً (رديء التمر) يملأ به بطنه) رواه مسلم. ودُعِيَ أبو هريرة رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاة مشوية، فأبى أن يأكل، وقال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير" رواه البخاري.

ومع ذلك كله فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً: (اللهمَّ اجعلْ رزقَ آلِ محمدٍ قوتاً) رواه مسلم. قال ابن بطال: "فيه دليل على فضل الكفاف، وأخذ الْبُلْغَة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك، رغبة في توفر نعيم الآخرة، وإيثاراً لما يبقى على ما يفنى، فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك". وقال القرطبي: "معنى الحديث أنه طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن، ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً".

هذا عن طعامه صلى الله عليه وسلم، فإذا تساءلت عن بيته وفراشه ستجد كذلك أمراً عجباً في زهده صلوات الله وسلامه عليه. فبيته وحجراته مبنية من جريد عليه طين، وحجارة مرضومة (بعضها فوق بعض)، وسقفه من جريد، ولم يكن عالياً، قال الحسن البصري: "كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي" رواه البخاري، وعن داود بن قيس قال: "رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى (مغطى) من خارج بمسوح الشعر".. إنه بيت متواضع وحجره صغيرة، لكنها عامرة بالإيمان والطاعة، ونور النبوة والرسالة.

وأما فراشه صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه فيقول عمر رضي الله عنه: "إنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أَدَم (جلد) حشوها ليفٌ، وإن عند رجليه قَرَظاً مصبوباً (ورق يُستخدم لدبغ الجلود)، وعند رأسه أهبٌ (جلود) معلَّقة، فرأيت أثرَ الحصير في جنبه فبكيت، فقال صلى الله عليه وسلم: مَا يُبْكِيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله!! فقال: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) رواه البخاري. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله! ألا آذنتنا فبسطت شيئاً يقيك منه، تنام عليه، فقال: ما لي وللدنيا، وما أنا والدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكبٍ ظلَّ تحت شجرة، ثم راح وتركها) رواه أحمد.

وعندما تُوفي صلى الله عليه وسلم وغادر الدنيا ماذا ترك لأهله منها؟! يقول عمرو بن الحارث أخو أمِ المؤمنين جويرية رضي الله عنهما: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمَة ولا شيئاً، إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وأرضاً جعلها صدقة" رواه البخاري.

لقد كان استعلاء نبينا صلى الله عليه وسلم على الدنيا وزهده فيها بإرادته واختياره؛ إذ لو أراد أن يكون ملكاً ويعيش عيشة الملوك لكان له ذلك، لكنه أبَى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملَك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خُلِق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك، قال: أفملِكَاً نبياً يجعلك، أو عبداً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد! قال: بل عبداً رسولاً" رواه أحمد.

والزهد في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس بلبس المرقع من الثياب، ولا اعتزال الناس والبعد عن المجتمع، ولا صيام الدهر، وترك الزواج والعمل، ولا تحريم الحلال وإضاعة المال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الزاهدين- كان يصوم ويفطر، ويصلي وينام، ويتزوج ويحب العِطر، ويلبس الجديد من الثياب، ويتزين للوفود وفي الجُمع والأعياد، ويخالط الناس، ويدعوهم إلى الخير، ويعلمهم أمور دينهم .. فحقيقة الزهد التعفف عن الحرام وما يُغْضِب الله تعالى، وتجنب مظاهر الترف والإفراط في متاع الدنيا، والإقبال على عمل الطاعات، وإيثار الآخرة على الأولى، والتزود لها بخير الزاد، فالزاهد حقاً هو من استعلى على الدنيا لا مَنْ هجرها، وملَكَهَا في يده ولم ُيْدِخلها قلبه..

ورغم زهده صلوات الله وسلامه عليه في الدنيا، إلاَّ أن نظرته لها كانت نظرة متوازنة، توجه الأُمَّة إلى أن تَزْهَدَ فيها، دون أن تترك إعمارها، فليس الزهد وعدم التعلُّق بالدنيا داعياً إلى خرابها، بل يعمرها المسلم دون أن يُفْتَنَ بها، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليفعل) رواه أحمد. (الفسيلة: شجرة النخل الصغيرة).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة