الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بين الحنيفين

بين الحنيفين

بين الحنيفين

وسط ظلمات الجاهليّة، وقبل بزوغ فجر الإسلام، كانت هناك أنوارٌ تبرق في ذلك الظلام الحالك، أنوارٌ تمثّلت في نفرٍ قليلٍ جدّاً ممّن أبى أن يسير مع التيّار الشركيّ الهادر، ففارق ما كان سائداً من عبادة الأوثان ومقارفة الآثام وارتكاب الخطايا، واستحسان القبيح والتقليد الأعمى، وبات ينتظر النبوّة التي سمع عنها من أصحاب الكتب السابقة.

هم الحنفاء، هكذا كان لقبهم، نسبةً إلى ما وُصف به دين إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم، وكانوا ممّن يؤمنون بالله تعالى وحدَه وإن لم يهتدوا إلى الطريقة الصحيحة التي ينبغي عبادةُ الله تعالى بها.

لن ننساق كثيراً في الحديث عن الحنيفيّة، ولكنها مدخلٌ مهم لتسليط الضوء على شخصيّتين بارزتين من أهلها، اعتنقاها وكانا من أبرز أسمائها، تشابهت بداياتهم، واختلفت نهاياتهما، إنهما: "زيد بن عمرو بن نفيل"، و"أمية بن أبي الصلت".

بدايات ابن نفيل

لم يكن زيد بن عمرو بن نفيل ممن يتقبّل الممارسات الخاطئة التي كان عليها العرب في الجاهليّة، فقد أبت نفسُه تصديق أن تكون هذه الحال مما يُرضي خالق الكون، فلما أعياهُ البحث عن الحقيقة ذهب إلى الشام، علّه يعرفُ كيف يعبدُ الله.

روى البخاري في صحيحه تفاصيل رحلته تلك، وفيها زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: "إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني". فقال له اليهودي: "لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله"، قال زيد: "ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، وأنّى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟"، قال: "ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً"، قال زيد: "وما الحنيف؟" قال: "دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولا يعبد إلا الله". فخرج زيدٌ فلقي عالماً من النصارى فذكر مثله، فلما رأى زيدٌ قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه فقال: "اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم".

وهكذا قرّر ابن نفيل أن يتّبع ما وصل إليه من المباديء العقديّة والأخلاقيّة التي وردت عن إبراهيم عليه السلام، وكان منها على سبيل المثال: منع وأد البنات، فكان ينهى عن ذلك ويقوم بكفالة البنات المعرّضات لهذه الممارسة الشنيعة.

وكان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: "الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله". إنكاراً لذلك وإعظاماً له.

وتعلّق زيدٌ بأملٍ آخر ظلّ ينتظره عبر الأيّام، فقد قال له حَبْرٌ من أحبار الشام: "قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدّقه واتّبعه".

بداية ابن أبي الصلت

ما يُقال عن زيد بن عمرو يُقال عن أميّة بن أبي الصلت، فقد فارق دين قومه من قريش، واشتُهر بثورتِه ضدّ مظاهر الشرك والوثنيّة، وانزعاجه من التردّي الخلقي الذي كان شائعاً في جزيرة العرب.

يزيد أميّة عن زيدٍ بأنه كان شاعراً، وذلك ما منحه أداة تفوّق في استعراض الجانب الفطريّ من العقيدة الصحيحة، والنهي عن الرذائل الخلقيّة، ومنه قوله:

يا نفس مالك دون الله من واقي ... وما على حَدَثان الدهر من باقي
يريد: مالك سوى الله، من يقيكِ المكاره.

ومنه كذلك:
الحمد لله مَمسانا ومصبَحنا ... بالخير صبّحنا ربي ومسّانا

وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم) رواه البخاري، وفي حديث ابن مهدي قال: (فلقد كاد يُسلم في شعره) رواه مسلم.

نهاية ابن نفيل

كانت رحلة البحث عن الحق طويلة شاقّة عند زيد، حاول فيها أن يَصل إلى تفاصيل أكثر مما اندثر من دين نبي الله إبراهيم، فلم ينجح في ذلك، وفوق ذلك: لم يستطع أن يُقنع قومَه وعشيرتَه بترك دين الآباء والأجداد، بل لاقت دعوته الصدود والعناد، وتروي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها رأته مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: "يا معشر قريش، والذي نفس زيدٍ بيده، ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري" ثم يقول: " اللَّهم لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم" ثم يسجد على راحلته، وكان يصلي إلى الكعبة ويقول: "إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم".

جاء في فتح الباري للحافظ ابن حجر قولُه:" وكان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان وجانب الشرك، لكنه مات قبل المبعث" ونقل أبو إسحاق أن موتَه كان قبل البعثة بخمس سنين عند بناء قريش الكعبة.

ولم يذهب جهده سدى، فقد روى جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن زيد فقال: (ذاك أمة وحده، يُحشر بيني وبين عيسى ابن مريم عليه السلام) رواه الحاكم وجوّد إسناده ابن كثير في البداية والنهاية.

نهاية ابن أبي الصلت

كان أميّة قد قرأ الكتب المتقدمة، وعلم أن الله مرسلٌ رسولاً في ذلك الوقت، وكانت نفسُه تتطلّع أن يكون هو ذلك الرسول، فلما بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم-، واصطفاه لمنزلة النبوّة، حسده وكذّبه، وأعلن العداوة له ولدينِه.

وظلَّ أمية على هذه الحال من الكفران حتى مات على الشرك، على خلاف في السَّنة التي توفّي فيها، وإن كانت بين الثانية والتاسعة من الهجرة.

وهكذا تُلقي هاتين القصّتين بظلالها على أهميّة الإخلاص، فلولاه ما وُفّق العبدُ في دنياهُ وأخرى، وقد رأينا هنا كيف وقف الرجلان على عتبات الحقيقة، ثم رفع الله مكانة أحدهما لأنه كان جادّاً في البحث، مريداً للحق، أما الآخر فكان يبحث عن الزعامة والريادة، فلم يُوفّق لحسن الخاتمة.

وإن كان من سؤالٍ يقول: "كيف وُفّق زيد للحق ولم يوفّق لها أميّة" فلأن الله بعلمه الواسع قد علم ما تكنّه الصدور، وعلم استحقاق زيد لذلك الفضل، وعلم فساد أميّة فلم يكتب له الهداية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة