الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إسلام ثقيف دروس وأحكام

إسلام ثقيف دروس وأحكام

إسلام ثقيف دروس وأحكام

في شوال من السنة العاشرة من النبوة ـ وقبل الهجرة بثلاث سنوات ـ توجه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى الطائف ـ سيراً على قدميه ذهاباً وعودة ـ حيث توجد ثقيف، يدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا له، وردوه رداً منكراً، وسلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم، فوقفوا له صفين يلقونه بالحجارة، فأصيب في قدميه، وسال دمه الشريف صلى الله عليه وسلم على أرض الطائف، وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه، وكان ممن قابلهم ودعاهم للإسلام ثلاثة من زعماء ثقيف وأشرافهم وهم: ابن عبد ياليل، ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير، فقال له ابن عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط (سيقطع) ثياب الكعبة إن كان الله أرسله، وقال مسعود: أمَا وجد الله أحدًا غيرك؟!، وقال حبيب: والله لا أكلمك أبداً، إن كنتَ رسولاً لأَنْتَ أعظم خطراً من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كُنْتَ تَكْذِبُ على الله ما ينبغي أن أكلمك.

وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: (يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (ميقات أهل نجد)، فرفعتُ رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) رواه البخاري.

وفي رمضان من العام التاسع من الهجرة النبوية، وجدت قبيلة ثقيف أن قوة المسلمين أصبحت هي القوة الأولى في الجزيرة العربية كلها، وذلك بعد الانتصارات الكثيرة على المشركين واليهود والروم، فقررت أن تأتي المدينة المنورة لإعلان إسلامها، ليس حُباً ورغبة في الإسلام، ولا اقتناعاً به، ولكن لرؤيتهم أنهم لا طاقة لهم بحرب المسلمين، ومن ثَمَّ كوَّنوا وفدًا يفاوض ويساوم النبي صلى الله عليه وسلم، ليصل معه إلى أفضل ما يمكن أن يصلوا إليه، وجعلوا على رأس هذا الوفد ابن عبد ياليل بن عمرو أحد زعمائهم القدامى صاحب الموقف الذي ترك جروحاً عميقة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم لعدة سنوات، والقائل له: "إنه سيمرط (سيقطع) ثياب الكعبة إن كان الله أرسله".. ومع ذلك استقبله النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من ثقيف بالترحيب والكرم وحسن الضيافة، ولم يذكرهم بما فعلوه معه وقالوه له، يوم ذهب إليهم داعياً لهم وطالباً نصرتهم، بل ومع كرمه معهم أمر بضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، فمكثوا على ذلك أياماً حتى طلب زعيمهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم كتاب صلح بينه وبينهم، يأذن لهم فيه بالزنا والربا وشرب الخمر، وأن يُتْرَكَ لهم صنمهم دون أن يُكْسر!!.. فأبَى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل شيئاً من ذلك، فخلوا وتشاوروا فيما بينهم، فلم يجدوا مفراً من الرضا بالإسلام، فدخلت ثقيف في الإسلام كاملاً دون انتقاص ولا تفريط.

يقول الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء": "وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد، وبنى لهم خياماً لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه، فلما سمعه وفد ثقيف قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهد به في خطبته، فلما بلغه ذلك قال: فإني أول من شهد أني رسول الله، وكانوا يغدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم، فكان عثمان كلما رجعوا وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعجب منه وأحبه. فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام ، فأسلموا، فقال كنانة بن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟ قال: نعم، إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم، قالوا: أفرأيت الزنا، فإنا قوم نغترب (نذهب إلى بلاد بعيدة) لا بد لنا منه؟ قال: هو عليكم حرام، قالوا: فالربا؟ قال: لكم رءوس أموالكم، قالوا: فالخمر؟ قال: حرام، وتلا عليهم الآيات في تحريم هذه الأشياء . فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويحكم، إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة، انطلقوا بكاتبه على ما سألنا، فأتوه فقالوا: نعم، لك ما سألت، أَرَأَيْتَ الرَّبَّةَ (صنمهم) ماذا نصنع فيها؟ قال : اهدموها، قالوا: هيهات، لو تعلم الربة ماذا تصنع فيها أو أنك تريد هدمها قتلت أهلها، فقال عمر: ويحك يا ابن عبد ياليل، ما أحمقك، إنما الربة حجر، قال: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب، وقالوا: يا رسول الله، تولَّ أنت هدمها، فأما نحن فإنا لن نهدمها أبدا، قال: فسأبعث إليكم من يهدمها، فكاتبوه وقالوا: يا رسول الله، أمِّر علينا رجلا يؤمنا، فأمَّر عليهم عثمان لما رأى من حرصه على الإسلام، وكان قد تعلم سورا من القرآن" . ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة الثقفي لهدم اللات صنم ثقيف بالطائف، فتوجّهوا وهدموه حتى سوّوه بالأرض".

وذكر البيهقي في الدلائل، والسيوطي في الخصائص الكبرى، وابن كثير في البداية والنهاية: "فقال له كنانة ابن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ثم نرجع إليك؟ فقال: نعم، إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم وإلا فلا قضية ولا صلح بينى وبينكم، قالوا: أرأيت الزنا؟ فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه. قال: هو عليكم حرام، إن الله يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا}(الإسراء: 32)، قالوا: فالربا؟ قال: والربا، قالوا: إنه أموالنا كلها، قال: فلكم رؤس أموالكم، قال الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(البقرة: 278)، قالوا فالخمر؟ فإنها عصير أرضنا ولا بد لنا منها، قال: إن الله قد حرمها، قال الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة: 90)، فارتفع القوم فخلا بعضهم إلى بعض وقالوا: ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة، انطلقوا فأعطوه ما سأل وأجيبوه. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لك ما سألت".
ويقول ابن القيم في زاد المعاد ـ في فقه قصة وفد ثقيف ـ : "وفي قصة هذا الوفد من الفقه: جواز إنزال المشرك في المسجد، ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه، وتمكينه من سماع القرآن، ومشاهدة أهل الإسلام وعبادتهم. ومنها: حسن سياسة الوفد، وتلطفهم حتى تمكنوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به .. ومنها: أن المستحق لإمرة القوم وإمامتهم أفضلهم وأعلمهم بكتاب الله، وأفقههم في دينه. ومنها: هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله، ويشرك بأربابها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام، ويجب هدمها، ولا يصح وقفها ولا الوقف عليها..ومنها: استحباب اتخاذ المساجد مكان بيوت الطواغيت، فيعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في الأمكنة التي كان يشرك به فيها، وهكذا الواجب في مثل هذه المشاهد أن تهدم، وتجعل مساجد إن احتاج إليها المسلمون، وإلا أقطعها الإمام هي وأوقافها لجند الإسلام، ويستعين بها على مصالح المسلمين".

{ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}(القلم:9):

من خلال موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع ثقيف الذي وافقوا فيه على أن يسلموا مع السماح لها بالربا والزنا وشرب الخمر، وعدم هدم صنمهم، ورفضه صلى الله عليه وسلم الشديد لذلك ـ رغم حرصه على هدايتهم ـ، ومن قبله موقفه صلى الله عليه وسلم مع قريش الرافض مساومتهم له في قولهم: "هلمَّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر"، بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا لقاء بين الكفر والإيمان، فالاختلاف جوهري كامل، والسبيل الوحيد للالتقاء هو الخروج من الكفر إلى الإسلام، وإلا فهي البراءة التامة، فلا مساومات وتنازلات عن شيء من الإسلام، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}(القلم:9)، قال السعدي: "{وَدُّوا}أي: المشركون، {لَوْ تُدْهِنُ} أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، {فَيُدْهِنُونَ}، ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه".

لقد كانت مساومة ومطالب ثقيف تدل على عدم معرفتهم بالإسلام، ومع سفاهة تلك المطالب ومع ما فعلوه بالنبي صلى الله عليه وسلم قديماً إلا أنه لم يغضب عليهم وينتقم منهم، إنما أخذ يشرح لهم خطأ طلباتهم وحرمتها في الإسلام، بأسلوب فيه رحمة ورفق وحكمة، ولذا قال الله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة) رواه البيهقي وصححه الألباني.
ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، الذي لا يعرف انتقاماً لنفسه، ولا يحمل ضغينة لأحد، بل يحمل همَّ هداية الناس إلى الله وإن آذوه، فهذه ثقيف التي طالما آذته، وأرسل الله عز وجل له مَلَك الجبال ليأمره بإهلاكهم، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) رواه البخاري.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة