الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وجعلنا من الماء كل شيء حي (1)

وجعلنا من الماء كل شيء حي (1)

وجعلنا من الماء كل شيء حي (1)

يلعب الماء في ظاهرة الحياة على الأرض دوراً رئيساً، فلولا وجود الماء لما كانت الحياة ممكنة؛ وقد قال عز من قائل: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} (الأنبياء:30). نبين في هذه المقالة بعض الحقائق العلمية المتعلقة بخصائص الماء، وكذلك الدور الذي يلعبه الماء في ظاهرة الحياة على الأرض.

يقدر علماء الجيولوجيا كمية الماء الموجودة على الأرض بستة عشر بليون كيلومتر مكعب، أو ما يساوي ستة عشر بليون بليون طن، أي أن نسبة كتلته إلى كتلة الأرض تبلغ خمسة وعشرون بالألف. ويوجد القسم الأكبر من هذه الكمية، والتي تقدر بثلاثة عشر بليون كيلومتر مكعب في طبقات الأرض الواقعة تحت القشرة الأرضية، وهي موجودة على شكل بخار ماء مضغوط؛ وذلك بسبب الحرارة العالية لباطن الأرض. أما الكمية المتبقية والتي تقدر بثلاثة بلايين كيلومتر مكعب، فإن نصفها يدخل في تركيب الصخور والمعادن الموجودة في القشرة الأرضية، بينما يوجد النصف الآخر في المحيطات والبحار والأنهار.

ويتجمع معظم الماء الموجود على سطح الأرض في محيطات وبحار الأرض، إلا أن هناك ما يقرب من مائة مليون كيلومتر مكعب من الماء موجودة على اليابسة في تجاويف القشرة الأرضية وفي البحيرات والأنهار والتربة على شكل سائل وفي المناطق الجبلية والجليدية على شكل جليد. ويعتقد العلماء أن الماء الموجود على سطح الأرض قد خرج من باطنها، فبعد أن تكونت القشرة الأرضية الصلبة بدأ الماء يخرج من باطن الأرض على شكل بخار مع الحمم التي تقذفها البراكين من باطن الأرض إلى سطحها؛ وذلك مصداقاً لقوله سبحانه: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها مائها ومرعاها} (النازعات:30-31).

ويقدر علماء الجيولوجيا كمية الماء الذي يخرج من باطن الأرض في السنة الواحدة بحوالي كيلومتر مكعب واحد، أو ما يعادل ألف مليون طن، ويعتقدون أن هذه الكمية كافية لتشكيل الاحتياطي الإجمالي للماء على سطح الأرض بمرور بلايين السنين على نشأة الأرض.

لقد كان الماء عند أول نشأة الأرض على شكل بخار، يملأ جو الأرض الأولي بسبب ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض في تلك الحقبة من الزمن، وبعد أن برد هذا السطح بدأ بخار الماء بالتكثف ليسقط على شكل أمطار غزيرة، لعبت دوراً كبيراً في تشكيل بعض تضاريس الأرض، كالأودية والسهول الغنية بالتراب. ولو أن جميع ما في الأرض من ماء قد خرج من باطنها واستقر على سطحها لما وسعته المحيطات، ولوصل ارتفاع الماء فوق سطح الأرض إلى ثلاثين كيلومتر، ولكن من لطف الله بالناس أن تسعين بالمائة من هذا الماء لا زال محبوساً كبخار تحت القشرة الأرضية.

ويقوم هذا المخزون الضخم من الماء المحبوس تحت القشرة الأرضية بتعويض كمية الماء الموجودة على السطح، إذا ما نقص بسبب هروب بعضه إلى الفضاء الخارجي، أو اتحاده بشكل دائم مع بعض العناصر والمركبات الأرضية. ولو أن الأرض بقيت على شكل كرة ملساء كما كان حالها عند بداية خلقها، لغطت كمية الماء الموجودة على سطحها فقط جميع سطح الأرض بارتفاع ثلاثة كيلومترات. ولكن بتقدير من الله عز وجل وبسبب ضغط الماء الهائل على قشرة الأرض التي كانت طرية ورقيقة عند بداية تكونها، فقد بدأ جزء من سطح الأرض بالانخفاض تحت وطأة هذا الضغط ما جلب مزيداً من الماء لهذا الجزء الذي واجه مزيداً من الانخفاض.

وقد توالت هذه العملية حتى تجمع الماء في جهة واحدة من سطح الأرض، وانحسر عن الجزء المتبقي من السطح، الذي ارتفع مستواه بسبب الضغط المعاكس على القشرة من داخل الأرض مكوناً اليابسة. ولقد تأكدت هذه الحقيقة بعد اكتشاف علماء الجيولوجيا أن المحيطات الحالية كانت محيطاً واحداً، وكذلك القارات التي كانت قارة واحدة، ولكن بسبب حركة الصفائح التي تتكون منها القشرة الأرضية، بدأت القارة الأولية بالانقسام إلى عدة قارات بشكل بطيء جداً بما يسمى ظاهرة انجراف القارات. وتغطي المحيطات الآن ما يقرب من سبعين بالمائة من سطح الأرض، بينما تشكل اليابسة ثلاثين بالمائة من سطحها، ويبلغ متوسط ارتفاع اليابسة عن سطح البحر ما يقرب من كيلومتر واحد، بينما يبلغ متوسط انخفاض المحيطات عن سطح البحر أربعة كيلومترات تقريباً.

إن تحديد نسبة مساحة سطح اليابسة إلى مساحة سطح المحيطات لم يتم بطريقة عشوائية، بل تم تقديره بشكل دقيق، حيث بينت دراسات العلماء أن أية زيادة أو نقصان فيها قد يحول دون ظهور الحياة على الأرض. فمتوسط درجة حرارة سطح الأرض سيختلف عن الرقم الحالي البالغ خمسة عشر درجة فيما لو تغيرت هذه النسبة؛ وذلك بسبب الاختلاف الكبير في الحرارة النوعية لكل من تراب اليابسة وماء المحيطات. وستتغير كذلك كمية ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي بسبب تفاوت نسب امتصاص البر والبحر لهذا الغاز، الذي يعتبر مصدر الغذاء الرئيس لجميع الكائنات الحية، وكذلك فإن كمية الماء التي ستسقط على اليابسة ستزداد أو تنقص تبعاً لقيمة النسبة بين مساحة كل من البر والبحر.

وقد يقول قائل: إن كمية الماء الهائلة الموجودة في المحيطات قد تكون أكبر مما تحتاجه الكائنات الحية، وأن محيطات بمتوسط عمق أقل من ذلك، قد تكون كافية لهذا الغرض. ولكن هنالك حكمة بالغة وراء تقدير تلك الكمية من الماء؛ حيث أن مياه الأمطار التي تعود للمحيطات من خلال الأنهار، تحمل معها كميات كبيرة من أملاح تراب اليابسة ما يزيد من ملوحتها مع مرور الزمن، وزيادة ملوحة المحيطات عن حد معين، سيؤدي حتماً إلى موت جميع الكائنات الحية فيها، وأكبر دليل على ذلك الحال الذي هو عليه البحر الميت في الأردن. ولكن بتقدير من الله وبفضل منه، وبسبب هذه الكمية الهائلة من المياه في المحيطات، فإن ملوحتها لا زالت دون الحد الذي يمنع عيش الكائنات الحية فيها، رغم أن أنهار الأرض تلقي فيها كميات كبيرة من الأملاح منذ ما يزيد عن أربعة آلاف مليون سنة، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها} (فاطر:12).

ويتفرد كوكب الأرض من بين جميع كواكب المجموعة الشمسية بوجود هذه الكمية الضخمة من الماء على سطحه؛ وذلك بعد أن تأكد للعلماء من خلال إرسال مركبات فضائية إلى كواكب المجموعة الشمسية أن سطوحها تخلو من الماء تماماً. ولا زال العلماء يتساءلون عن مصير الماء الذي كان موجوداً على هذه الكواكب؛ حيث أنها قد تكونت بنفس الطريقة التي تكونت بها الأرض ولا بد والحال هذه أن جميعها قد أخذ نصيبه من الماء، وكذلك من بقية العناصر والمركبات الطبيعية.

إن عملية نقل الماء من المحيطات وتوزيعها على اليابسة تتم بآليات بالغة الإتقان، حيث تستخدم الطاقة الشمسية لتبخير الماء من المحيطات دون أن يتم رفع درجة حرارة الماء إلى درجة الغليان. ويقدر العلماء كمية الماء المتبخر من المحيطات في السنة الواحدة بأربعمائة ألف كيلومتر مكعب ومن اليابسة بستين ألف كيلومتر مكعب، وتحتاج هذه الكمية الهائلة من الماء المتبخر من المحيطات إلى كمية هائلة من الطاقة، تقدر بمائتين وخمسين مليون بليون كيلو واط ساعة في السنة الواحدة.

وتتكفل الشمس بتوفير هذه الكمية الهائلة من الطاقة لعملية تبخير الماء من خلال الإشعاع الذي يصل إلى الأرض على شكل أمواج ضوئية وحرارية. ومن حسن التقدير أن طاقة التبخير هذه لا تذهب هدراً، بل يتم الاستفادة منها عندما يتكثف بخار الماء في الجو، فتنطلق هذه الطاقة لتسخن جو الأرض، وخاصة أثناء الليل. وبعد أن يصعد هذا الماء المتبخر إلى طبقات الجو العليا مع التيارات الهوائية الصاعدة، يبدأ البخار بالتكثف على شكل غيوم بسبب البرودة الشديدة لطبقات الجو العليا، وصدق الله إذ يقول: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكرون} (الأعراف:57).

إن رفع هذا الكمية الهائلة من الماء إلى ارتفاع عدة كيلومترات فوق سطح البحر يحتاج إلى كمية هائلة من الطاقة، لا تقل عن كمية الطاقة التي لزمت لتبخيرها. وتقوم الشمس أيضاً بتوفير هذه الطاقة من خلال تسخين الهواء الملامس لسطح الأرض، والذي يرتفع إلى الأعلى حاملاً معه بخار الماء؛ وذلك بسبب أن كثافة الهواء الساخن أقل من كثافة الهواء البارد. إن هذه الطاقة تعاد بكاملها إلى الأرض عند نزول الماء على شكل أمطار من خلال تحول طاقتها الوضعية إلى طاقة حركية، ويتحول جزء كبير من هذه الطاقة الحركية إلى طاقة حرارية عند ارتطام قطرات الماء بسطح الأرض، أما الجزء المتبقي فيبقى كطاقة حركية، تنقل مياه الأنهار والسيول والجداول من أعالي الجبال إلى المحيطات والبحار والبحيرات.

ويستفاد من هذه الطاقة الحركية في مياه الأمطار لنقل التراب من رؤوس الجبال الشاهقة إلى السهول المنبسطة الصالحة للزراعة. ولولا هذا التقدير لخلت هذه السهول مع مرور الزمن من العناصر والمركبات اللازمة للحياة. وقد استفاد الإنسان في العصور الماضية من هذه الطاقة الحركية في تشغيل النواعير لرفع الماء من الأنهار والطواحين لطحن الحبوب، وفي هذا العصر في توليد كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية. وبعد أن يرتفع بخار الماء إلى طبقات الجو المختلفة يبدأ بالتكثف ليكوِّن الغيوم التي تسوقها الرياح إلى مناطق اليابسة، حيث تبدأ حبيبات الماء بالتكون لتسقط على شكل أمطار وثلوج وبَرَد، وصدق الله حيث قال: {ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} (النور:43-44).

ولو قُدِّر لهذه الكمية الهائلة من الماء المتبخر، أن تنزل دفعة واحدة على سطح جميع القارات، لوصل ارتفاع الماء إلى عشرة أمتار، ولكن من لطف الله بعباده أن (370) ألف كيلومتر مكعب منها ينزل على المحيطات، بينما ينزل على اليابسة فقط (90) ألف كيلومتر مكعب. ولو وزع هذا الرقم الأخير على جميع مناطق اليابسة بالتساوي، لكان نصيب كل متر مربع من الأرض متراً مكعباً واحداً من الماء. ومن لطف الله بالناس أن هذا الماء ينزل على مدى عدة أشهر، وإلا فان نزول مثل هذه الكمية خلال يوم أو حتى أسبوع، قد يتسبب في حدوث كوارث لا تحمد عقباها، وجلَّ الذي قال في محكم كتابه: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون *وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} (المؤمنون:18-20).

وإن ما حل بقوم سيدنا نوح عليه السلام من دمار وعذاب، كان بسبب زيادة سقوط المطر عن الحدود التي قدرها الله، وقد صور القران الكريم هذا المشهد العجيب بقوله سبحانه: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر} (القمر:11-14).

إن كمية الماء التي تسقط على اليابسة، والتي تقدر بتسعين ألف كيلومتر مكعب تعود في النهاية إلى المحيطات والبحار، حيث يعود ثلاثون ألف كيلومتر مكعب منها بشكل مباشر بواسطة الأنهار، بينما تعود الستين ألف المتبقية بطريقة غير مباشرة من خلال عملية التبخر؛ وذلك بعد أن يتم الاستفادة منها من قبل الكائنات الحية المختلفة، وخصوصاً النباتات التي تستهلك الجزء الأكبر من هذه الكمية بامتصاصها من التربة. والجدير بالذكر أن مجموع ما يستهلكه البشر سنويًّا من الماء للأغراض الزراعية والمنزلية والصناعية، يقدر بثلاثة آلاف كيلومتر مكعب، أي ما يساوي ثلاثة آلاف بليون متر مكعب فقط. إن عملية توزيع مياه الأمطار على جميع مناطق اليابسة لا تتم بشكل متساو؛ بسبب التفاوت الكبير لتضاريس اليابسة، ومقدار بُعدها عن المحيطات، حيث تسقط الأمطار بكميات كبيرة على المناطق الساحلية، وتقل تدريجياً كلما ابتعدنا عن شواطئ المحيطات والبحار.

ومن فضل الله على الناس أن قام بتوفير آليات مختلفة لتزويد المناطق التي لا تسقط عليها كمية كافية من الأمطار بما يكفيها من الماء الذي يبعث فيها الحياة؛ فقد سخر الله الأنهار التي تحمل الماء من المناطق الغنية به إلى المناطق الصحراوية الجافة، كنهر النيل الذي يجلب الماء من الحبشة إلى السودان ومصر، وكنهري دجلة والفرات اللذَيْن يجلبان الماء من تركيا إلى سوريا والعراق، وكذلك الحال مع بقية أنهار الأرض، والله سبحانه يخبرنا بهذا بقوله: {أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون} (النمل:61). ومن عجائب تصميم الأنهار أن ميلان الأرض قد تم تقديره بشكل بالغ الدقة، بحيث أن الماء ينساب بشكل طبيعي من منابع الأنهار إلى مصابها، رغم أنها تجري لآلاف الكيلومترات، وصدق الله العظيم القائل: {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الرعد:3).

(يتبع)

* مادة المقال مستفادة من موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة