الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السّاعي على الأرملة والمِسكين كالمُجاهد

السّاعي على الأرملة والمِسكين كالمُجاهد

السّاعي على الأرملة والمِسكين كالمُجاهد

اعتنى ديننا الحنيف بشؤون الضّعفاء والمُحتاجين من النّاس، وأَوْلاهم مزيدًا من الاهتمام والرّعاية، جبرًا لضعفهم، وإصلاحًا لشأنهم، حتّى وصل الأجر والثّواب المترتّب على القيام بشؤونهم إلى منزلة أعلى العبادات والطّاعات مَرتبةً وفضيلةً، فعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وأحسِبُه قال: - كَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لاَ يُفْطِرُ) متّفقٌ عليه.

غريب الحديث:

الأرملة: من لا زوج لها، وقيل الّتي مات عنها زوجها، غنيّة كانت أم فقيرة، قال ابن قُتيبة: "سُمّيت أرملة لما يحصل لها من الإِرمال، وهو الفقر وذهاب الزّاد بفقد الزّوج، يُقال أرمل الرّجل، إذا فَنِيَ زاده".

لا يَفتُر: من الفُتُور وهو الانكسار والملل والضّعف، والمُراد لا يتوقّف أو لا يستريح أو لا ينقطع أو لا يملّ.

شرح الحديث:

يحثّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأمّة في هذا الحديث العظيم على التّكافل والتّراحم، وعلى رعاية الضّعفاء والمحتاجين من الأرامل والمساكين، ويخبرها بالثّواب الجزيل والمردود الجميل والمرتبة العُليا لمن فعل ذلك، فيقول صلّى الله عليه وسلّم: (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ): السّاعي أي الّذي يسعى ليُحصّل ما ينفقه عليهم، أو الكاسب لهما العامل لمُؤنتهما، أو الذي يقوم بشؤونهما ويرعاهما ولو من غير ماله، والأرملة بالمعنى العام هي الّتي لا زوج لها أو لا عائل لها، سواءٌ سبق لها أن تزوّجت أم لم يسبق لها ذلك، والمِسكين هو الّذي لا شيء له، أو الّذي له شيء يسير، وقد تُطلق المَسْكنة على الضَّعف، والمقصود أنّ الّذي يسعى ويقوم برعاية الأرامل والمساكين (كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وأحسِبُه قال: - كَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لاَ يُفْطِرُ)، أي أنّ ثواب القائم بأمرهما وإصلاح شأنهما والإنفاق عليهما، كثواب الغازي في سبيل الله، فإنّ المال شقيق الرّوح، وفي بذله مخالفة النّفس ومطالبة رضا الرّب، وأيضًا كثواب الّذي يقوم الّليل دون فتور، ويصوم النّهار دون فطور، ولا يخفى ما في ذلك من أجور، فدّل ذلك على المنزلة الرّفيعة، والمكانة السّامية، لمن يقوم بهذا الدّور العظيم.

التّوجيه النّبوي في الحديث:

- الغنيمة العظيمة لمن يسعى في رعاية الأرامل والمساكين: قال ابن بطّال رحمه الله: "من عجز عن الجهاد في سبيل الله، وعن قيام الّليل وصيام النّهار، فليعمل بهذا الحديث، وليسعَ على الأرامل والمساكين؛ ليُحشر يوم القيامة في جملة المجاهدين في سبيل الله دون أن يخطو في ذلك خطوة، أو ينفق درهمًا، أو يلقى عدوًّا يرتاع بلقائه، أو ليحشر فى زُمرة الصّائمين والقائمين، وينال درجتهم، وهو طاعمٌ نهاره، نائمٌ ليله أيام حياته، فينبغي لكلِّ مؤمن أن يحرص على هذه التّجارة الّتي لا تبور، ويسعى على أرملة أو مسكين لوجه الله تعالى، فيربح في تجارته درجات المجاهدين والصّائمين والقائمين من غير تعب ولا نصب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".

- وجه الشّبه بين المُجاهد والسّاعي على الأرامل والمساكين: كلاهما يقوم بالإحياء، وكلاهما يغالب النّفس والشّيطان والهوى، المُجاهد يعمل على إحياء الدّين، والسّاعي يعمل على إحياء النّفوس، يذود المُجاهد في سبيل الله عن دينه في ميدان المعركة، ويبذل نفسه وماله لله عزّ وجلّ، ويكدّ السّاعي على الأرامل والمساكين في ميدان الحياة، ويتعب وينصب، ويبذل ماله ووقته، لا ليُمتّع نفسه أو ولده، أو لينفقه في البذخ والّلذة، وإنّما ليكفيهم حاجاتهم ويرعى مصالحهم، ويغنيهم عن الاستجداء وذلّ السّؤال، طلبًا لرضا الله عزّ وجلّ، فاشتركا في البذل والعطاء ابتغاء لمرضاة الله عزّ وجلّ ورغبة فيما عنده، فكان خليقًا -أي السّاعي- بمرتبة المُجاهدين، ومنزلة المقرّبين، ولَعمري إنّها لمنزلة تستحقّ أن نُبادر إليها ونتسابق فيها، لكي نظفر بأجرها وثوابها، وحتى لا يبقى في الأمة أرامل ضائعين، أو مساكين دون رعاية وكفالة.

وبالله التّوفيق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة