الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (ضلل) في القرآن الكريم

لفظ (ضلل) في القرآن الكريم

لفظ (ضلل) في القرآن الكريم

مادة (ضلل) لغة تدل على معنى واحد، وهو ضياع الشيء وذهابه في غير حقه. يقال: ضلَّ يَضِل ويَضَل، لغتان. وكل جائر عن القصد ضال. والضلال والضلالة بمعنى: الحيرة والعدول عن الصواب. وأصل الضلال الزوال عن القصد، والسير عن غير بصيرة، وصاحبه بصدد الهلاك؛ ولهذا قيل: إن الضلال الهلاك. ثم استعير لمن زال عن سبيل طاعة الله؛ فقيل للكافر: ضال، وللفاسق مثله؛ ثم جُعِل اسماً للعقاب على الفسق والكفر. ورجل ضليل ومضلِّل، إذا كان صاحب ضلال وباطل. ووقع في أضاليل وأباطيل. وأُضِلَّ الميت: إذا دُفن. وذاك كأنه شيء قد ضاع. وأضلني أمر كذا: لم أقدر عليه. ويقال: أضلَّ بعيره: إذا ذهب منه؛ وأضل المسجد والدار: إذا لم يهتد لهما. والإضلال: الصرف عن القصد.

ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج، عمداً كان أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جدًّا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا، ولن تحصوا) رواه ابن ماجه ومالك وأحمد.

وإذا كان الضلال ترك الطريق المستقيم، عمداً كان أو سهواً، قليلاً كان أو كثيراً، صح أن يستعمل لفظ الضلال فيمن يكون منه خطأ ما. ولذلك نُسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، قال تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} (الضحى:7) أي غير مهتد لما سيق إليك من النبوة. وقال سبحانه على لسان نبيه موسى عليه السلام: {قال فعلتها إذا وأنا من الضالين} (الشعراء:20) وقال عز وجل على لسان إخوة يوسف عليه السلام: {إن أبانا لفي ضلال مبين} (يوسف:8) تنبيهاً أن ذلك منه سهو.

ولفظ (ضلل) وما اشتق منه ورد في القرآن في واحد وتسعين ومائة موضع (191) ورد منه بصيغة الفعل في سبعة عشر ومائة موضع (117) منها قوله عز وجل: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} (البقرة:108) وورد منها بصيغة الاسم في أربعة وسبعين موضعاً (74) منها قوله سبحانه: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (الرعد:14).

ولفظ (ضلل) وما اشتق منه ورد في القرآن على عدة معان، نذكر منها:

* الضلال الذي هو ضد الهدى، من ذلك قوله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} (الأنعام:125) أي: من أراد الله أن يضله عن طريق الهداية، يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقاً، والإسلام واسع. ومنه أيضاً قوله تعالى: {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا} (البقرة:26). ونحوه قوله عز وجل: {ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين} (يس:71). وأكثر ما جاء هذا اللفظ في القرآن وفق هذا المعنى.

* الضلال بمعنى الصد عن الهدى، من ذلك قوله سبحانه: {ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} (الأنعام:119) أي: ولأصدن النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال، ومن الإسلام إلى الكفر. ومنه أيضاً قوله تعالى: {ولقد أضل منكم جبلا كثيرا} (يس:62) أي: ولقد صد الشيطان منكم خلقاً كثيراً عن طاعتي، وإفرادي بالألوهة حتى عبدوه، واتخذوا من دوني آلهة يعبدونها.

* الضلال بمعنى الخسران، من ذلك قوله تبارك وتعالى: {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} (غافر:25) أي: في خسران وهلاك. ومنه أيضاً قوله سبحانه: {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} (الشعراء:97) أي: لقد كنا في خسار وتبار وحيرة عن الحق بينة؛ إذ اتخذنا مع الله آلهة، فعبدناها كما يُعبد. ونحوه قول الحق تعالى: {إني إذا لفي ضلال مبين} (يس:24) أي: خسران ظاهر وواضح. ومنه أيضاً قوله عز وجل: {قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (غافر:50) أي: وما دعاء الكافرين إلا في خسار وتبار.

* الضلال بمعنى الذهاب عن الحق، من ذلك قوله سبحانه: {ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} (الملك:9) يقول: في ذهاب عن الحق بعيد. ومثله قوله عز وجل: {إن المجرمين في ضلال وسعر} (القمر:47) يقول تعالى ذكره: إن المجرمين في ذهاب عن الحق، وأَخذٍ على غير هدى. ومنه أيضاً قوله عز وجل: {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} أي: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة من هؤلاء المشركين في عذاب الله في الآخرة، وفي الذهاب البعيد عن طريق الحق وقصد السبيل. ومن ذلك كذلك قوله عز وجل: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك} (النساء:113) أي: يميلون بك عن طريق الحق. ومثله قوله عز وجل: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (ص:26) أي: فيميل بك اتباعك هواك في قضائك على العدل والعمل بالحق عن طريق الله الذي جعله لأهل الإيمان فيه. ومنه أيضاً قوله عز وجل: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (الأحزاب:36) أي: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدى والرشاد.

* الضلال بمعنى إحباط العمل وإبطاله، من ذلك قوله سبحانه: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} (محمد:1) أي: أبطلها وأحبطها. ومثله في السورة نفسها قوله عز وجل: {فلن يضل أعمالهم} (محمد:4) أي: لن يبطل سبحانه أعمال عباده الصالحين، بل يجازيهم عليها أحسن الجزاء. ومنه قوله عز وجل في قصة أصحاب الفيل: {ألم يجعل كيدهم في تضليل} (الفيل:2) أي: جعل سبحانه ما دبروه وسعوا إليه في إبطال وتضييع، لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل والسبي، والبيت بالتخريب والهدم.

* الضلال بمعنى الخطأ، من ذلك قوله سبحانه: {فلما رأوها قالوا إنا لضالون} (القلم:26) يعني: أخطأنا الطريق إلى البستان. ونحوه قوله عز وجل: {يبين الله لكم أن تضلوا} (النساء:176) أي: لئلا تجوروا عن الحق في ذلك، وتخطئوا الحكم فيه، فتضلوا عن قصد السبيل. ومنه قوله سبحانه على لسان إخوة يوسف عليه السلام: {إن أبانا لفي ضلال مبين} (يوسف:8) يعنون: إن أبانا يعقوب لفي خطأ من فعله، في إيثاره يوسف وأخاه من أمه علينا بالمحبة. ويعني بـ {المبين} أنه خطأ يبين عن نفسه أنه خطأ لمن تأمله، ونظر إليه. ولو عنوا غير ذلك كفروا؛ فإن تضليل الأنبياء عليهم السلام على الحقيقة كفر. ونحوه قوله جل ثناؤه: {لا يضل ربي ولا ينسى} (طه:52) أي: لا يخطئ ربي في تدبيره وأفعاله، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله.

* الضلال بمعنى النسيان، وذلك قوله سبحانه في آية المداينة: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (البقرة:182) قال ابن عاشور: "الضلال هنا بمعنى النسيان". وقال أبو عبيد: "معنى {تضل} تنسى. والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها، وذكر جزء، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالاً. ومن نسي الشهادة جملة، فليس يقال: ضل فيها". وليس غير هذه الآية في القرآن بحسب هذا المعنى.

* الضلال بمعنى الهلاك، من ذلك قوله سبحانه: {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون} (آل عمران: 69) قال الطبري: "(الإضلال) في هذا الموضع، الإهلاك". ونحوه قوله عز وجل: {وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد} (السجدة:10) يعني: هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا. قال القرطبي: "وأصله من قول العرب: ضل الماء في اللبن: إذا ذهب. والعرب تقول للشيء غلب عليه غيره حتى خفي فيه أثره: قد ضل".

* الضلال بمعنى الجهل، من ذلك قوله تعالى: {قال فعلتها إذا وأنا من الضالين} (الشعراء:20) أي: أنا من الجاهلين قبل أن يأتيني من الله وحي بتحريم قتله علي، فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل. قال الطبري: "والعرب تضع الضلال موضع الجهل، والجهل موضع الضلال، فتقول: قد جهل فلان الطريق، وضل الطريق، بمعنى واحد". ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة:2) أي: في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقاً، ولا يبطلون باطلاً، ولا يهتدون سبيلاً.

* الضلال بمعنى الغفلة، من ذلك قوله عز وجل: {ووجدك ضالا فهدى} (الضحى:7) أي: غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة. وقال في حق نبيه: {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف:3).

أما قوله تعالى: {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} (نوح:24) قال ابن عاشور: "(الضلال) هنا مستعار لعدم الاهتداء إلى طرائق المكر، الذي خشي نوح غائلته في قوله: {ومكروا مكرا كبارا} (نوح:22) أي: حل بيننا وبين مكرهم، ولا تزدهم إمهالاً في طغيانهم علينا، إلا أن تضللهم عن وسائله...وليس المراد بـ (الضلال) الضلال عن طريق الحق والتوحيد؛ لأنه ينافي دعوة نوح قومه إلى الاستغفار والإيمان بالبعث، فكيف يسأل الله أن يزيدهم منه"، قال: "ويجوز أن يكون (الضلال) أُطلق على العذاب، المسبَّب عن الضلال، أي: في عذاب يوم القيامة، وهو عذاب الإهانة والآلام".

وحاصل القول: إن مادة (ضلل) ومشتقاتها وردت في القرآن على عدة معان؛ وأكثر ما وردت هذه المادة بمعنى الضلال المقابل للهدى، وأقل ما وردت بمعنى النسيان، وجاءت بين هذا وذاك بمعنى الصد عن الهدى، والخسران، والذهاب عن طريق الحق، وإحباط العمل، والخطأ، والهلاك، والجهل، والغفلة، والنسيان. وهذه المعاني كلها -عند التحقيق والتدقيق- ترجع إلى أصل المادة لغة، وهو: ضياع الشيء، وذهابه في غير حقه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة