الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التسليم والتعظيم لنصوص الكتاب والسنة

التسليم والتعظيم لنصوص الكتاب والسنة

 التسليم والتعظيم لنصوص الكتاب والسنة

لا شك أن نصوص الوحيين (الكتاب والسنة) لهما منزلة عظيمة عند المسلمين، فهما المنهج الكامل للحياة السوية، ولا يكون للمسلمين فلاح في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بتعظيمهما، والتسليم لهما، والتمسك بهما. ومن تمامِ العبودية لله عز وجل التسليم والتعظيم للوحيينِ: الكتاب والسنَّة، إذ عليهما مدارُ التكليف، وهما مصدرُ التشريع. ومن أصول عقيدة أهل السنة: التسليم والتعظيم لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، والأدلة على هذا الأصل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال السلف كثيرة، ومن ذلك:

أولا: الآيات القرآنية الدالة على التسليم والتعظيم لنصوص الكتاب والسنة:
منهج أهل السنة يقوم على التعظيم والتسليم المطلق لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، لا يردون منهما شيئاً، ولا يعارضونهما بشيء، بل يقفون حيث وقفتْ بهم النصوصُ من الكتاب والسنة، معظمين لهما، مستسلمين لأمرهما، ومن الآيات القرآنية الدالة على ذلك قول الله تعالى: {ومَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ}(النساء:125)، وقال تعالى: {ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلَى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى}(لقمان:22)، وقوله سبحانه تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام:153)، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}(الأنفال:20).
ومن مقتضيات التعظيم والتسليم لنصوص الكتاب والسنة الرجوع والرد إليهما في أي أمر يقع فيه النزاع والخلاف، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ}(النساء:59). قال ابن كثير في تفسيره: "قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه، من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(الشورى:10)، فما حكم به كتابُ الله وسنةُ رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؛ ولهذا قال تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}(النور:2)، أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم... ومن لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر".
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(الحجرات:1). قال ابن كثير: "عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وعن الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم". وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(النور:51). قال ابن كثير: "أي: سمعنا حُكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه، وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حصر الفلاح فيهم، لأن الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله، وأطاع الله ورسوله".

ثانيا: الأحاديث النبوية في التسليم والتعظيم لنصوص الكتاب والسنة:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي) رواه الحاكم وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض) رواه البزار وصححه الألباني. قال المناوي: "فهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما، ولا هدى إلا بهما، والعصمة والنجاة في التمسك بهما، فوجوب الرجوع للكتاب والسنة معلوم من الدين بالضرورة". وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، وقال: أمتهوكون (أمتحيرون) فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) رواه أحمد وحسنه الألباني. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم.

ثالثا: أقوال السلف في التسليم والتعظيم لنصوص الوحيين الكتاب والسنة:
قال الإمام المروزي في معنى الإيمان: "الإيمان بالله: أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له ولأمره، بإعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه.. وإيمانك بمحمد صلى الله عليه وسلم إقرارك به، وتصديقك إياه، واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمـت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات". وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله.. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه". وقال ـ ابن تيمية ـ ": جماع الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك، أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى، والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل".
وقال الأوزاعي في "التمهيد": "من الله تعالى التنزيل، وعلى رسوله التبليغ، وعلينا التسليم".
وذكر المروزي في كتابه "تعظيم قدر الصلاة": "ولما ذكر عبد الله بن المبارك رحمه الله حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) رواه البخاري، قال قائل ـ على وجه الإنكار ـ: ما هذا؟! فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان (كثير الكلام والتشكي) أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا". وذكر الخلال في "السنة": "وقال رجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، وليس منا من لم يوقر كبيرنا) وما أشبه هذا الحديث؟ قال الزهري: "من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم". وقال الإمام الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة: "ولا تثبت قَدم الإسلام إلاَّ على ظهر التسليم والاستسلام". قال ابن أبي العز: "أي: لا يثَبت إسلام مَن لم يُسَلِّم لِنُصوص الوحيين وينقاد إليها، ولا يَعْتَرِض عليها، ولا يُعارضها بِرأيه ومَعْقُولِه وقِياسه. روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: مِن الله الرسالة، ومِن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وهذا كلام جامع نافع".

من أعظم أسباب الضلال والهلاك: عدم الاستسلام والتعظيم لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديم أقوال وعقول وأهواء البشر على قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ثم فمن أصول عقيدة أهل السنة: التسليم والتعظيم لنصوص الكتاب والسنة، والتمسك بهما، والانقياد لهما، والرجوع إليهما، ولا فلاح ولا فوز للعباد في الدنيا والآخرة إلا بذلك الأصل العظيم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ}(النور:51 ـ 52).
لقد كانت حياةُ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم تسليما وتعظيمًا عمليًّا للنصِّ الشرعيِّ من الكتاب والسنة، وتوقيراً صادقاً لهما، متمثلاً في الوقوف عند مُقتضى النص الشرعي ـ من الكتاب أو السنة ـ، وعدمُ التقدُّمِ بين يديه برأي أو فعل، ومسارعة إلى تطبيقه وإن كان مخالفا لأهوائهم أو عقولهم. والسيرة النبوية زاخرة بالكثير من الصور والأمثلة الدالة على مدى عِظَم تسليم الصحابة لنصوص الكتاب والسنة. قال السعدي في تفسيره لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا}(الأحزاب: 36): "أي: لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة {إِذَا قَضى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} من الأمور، وحتَّما به وألزما به {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله". وقال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: "رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره".
منهج الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، والأئمة والعلماء، قام على تعظيم نصوص الوحيين القرآن والسنة، وكمال التسليم لهما، قال ابن تيمية: "من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين، أنه لا يقبل من أحد أن يعارض القرآن رأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده"، وقال الشافعي: "كل شيء خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله قاطع العذر بقول رسول الله، فليس لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر به ونهى عنه"، وقوله: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ودعوا ما قلته". ومثل ذلك ـ في التسليم والتعظيم لنصوص الوحيين الكتاب والسنة ـ جاءت الأقوال عن جميع أئمة وعلماء أهل السنة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة