الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

الخمر أم الخبائث، وهي من الكبائر، وقد نزل في تحريمها آيات بينات، ومما نزل فيها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا} (النساء:43) وقفتنا مع سبب نزول هذه الآية.

يذكر المفسرون ثلاث روايات في سبب نزول هذه الآية:

الرواية الأولى: ما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف، فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمَّهم علي في المغرب -وفي رواية: فلما أخذت الخمر فينا، وحضرت الصلاة، أمروا رجلاً، فصلى بهم- فقرأ: {قل يا أيها الكافرون} فخلط فيها -وفي رواية: فالتبس عليه فيها- فنزلت: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}.

وفي رواية ثانية عن علي رضي الله عنه، أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً، فدعا نفراً من الصحابة، فأكلوا، وشربوا، حتى ثمِلوا -أي: سكروا من تناول الخمر- فقدموا عليًّا، فقرأ بهم في المغرب {قل يا أيها الكافرون} فخلط، فأنزل الله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}.

وأخرج ابن المنذر عن عكرمة، قال: قرأ علي في آخر المغرب، فقال في آخرها: (ليس لكم دين، وليس لي دين). وفي رواية قرأ: (ولكن نعبد ما تعبدون). وروى الطبري بسنده أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً، فدعا نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم المغرب، فقرأ: (قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون. وأنتم عابدون ما أعبد. وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين) فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}.

وروى أبو داود الطيالسي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: نزلت فيَّ أربع آيات -وذكر منها ما يتعلق بهذه الآية- قال: صنع رجل من الأنصار طعاماً، فدعا أناساً من المهاجرين، وأناساً من الأنصار، فأكلنا، وشربنا حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لَحْيَ بعير -اللحي: موضع منبت اللحية من الإنسان وغيره- ففزر به -أي: شق- أنف سعد، فنزلت.

حديث علي رضي الله عنه في شأن التخليط في القراءة رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. والحديث صحيح، وسنده قوي؛ لكن اختلف في اسم الداعي، واسم المصلي، والصحيح أن الذي صلى بهم هو عبد الرحمن بن عوف.

وحديث علي رضي الله عنه ذكره جمهور المفسرين وعلى رأسهم الطبري، حيث قال بعد أن ساق الحديث: "وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، تأويل من قال: ذلك نهي من الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب، قبل تحريم الخمر؛ للأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن ذلك كذلك نهي من الله، وأن هذه الآية نزلت فيمن ذكرتُ أنها نزلت فيه" يريد أن الآية نزلت في قصة علي رضي الله عنه.

وقال ابن العربي بعد أن ساق حديث علي رضي الله عنه: "وهذا حديث صحيح من رواية العدل عن العدل".

الراوية الثانية: ما روي عن عمر رضي الله عنه، قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاء، فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} (البقرة:219) قال: فدعي عمر، فقرئت عليه. فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاء، فنزلت الآية التي في النساء: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاء، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ {فهل أنتم منتهون} قال عمر: انتهينا، انتهينا. رواه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه، والحاكم وصحح إسناده، ووافقه الذهبي. قال محققو المسند: إسناده صحيح.

الرواية الثالثة: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: حُرِّمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} (البقرة:219)، إلى آخر الآية، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: {فيهما إثم كبير} وكانوا يشربون الخمر. حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين، أمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته، فأنزل الله فيها آية أغلظ منها: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة، وهو مفيق -من الإفاقة، يريد أنهم أخذوا في الشرب في وقت بعيد عن أوقات الصلاة-. ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة:90). تفرد به الإمام أحمد. قال محققو المسند: حسن لغيره، وإسناده ضعيف.

وهذه الروايات الثلاث لا تعارض بينها، ويمكن الجمع بينها بالقول: إن حديث علي، وحديث أبي هريرة متطابقان في لفظيهما، وحديث عمر لا ينافيهما؛ لأنه قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاء، فربما كان دعاؤه أحد أسباب نزول الآية.

وعلى الجملة، فإن حديث علي رضي الله عنه هو العمدة في سبب نزول الآية الكريمة؛ وذلك لموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به كسبب لنزول الآية، وتصريحه بالنزول، وحديث عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما مؤكدان ومفصِّلان لما جاء في حديث علي رضي الله عنه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة