الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كتاب: العودة إلى الربانية

كتاب: العودة إلى الربانية

كتاب: العودة إلى الربانية

من الكتب التي أتحفتنا بها المكتبة القرآنية كتاب بعنوان (العودة إلى الربانية: نظرات في فاتحة الكتاب) وأصل هذا الكتاب مجموعة خطب ألقاها مؤلفه د.محمد الدبيسي في جامع الهدى في المملكة العربية السعودية، وهي خطب كان الغرض الأساس منها إطلاق صيحة تحذير من خطورة تقصير أهل الإيمان في طريق الدعوة إلى الله تعالى، وهو طريق الربانية، وقدم فيها النصح والإرشاد من أجل المسارعة بالعودة إلى طريق الرشاد.

أوضح المؤلف في مقدمة كتابه أن الأيام والأحداث قد أخذت أهل الإيمان عما خُلقوا من أجله، وأبعدتهم عن الطريق الموصل إلى الله تعالى، الذي كانوا يسبقون فيه، واختلت موازين السير إلى الله تعالى، وتحيروا في الطريق الموصل إلى نجاتهم وفلاحهم، وأفضت بهم الأحداث والأيام والعصبية والطائفية والحزبية إلى الغفلة عن الطريق الذي لا محيد عنه، والذي لا ينبغي الغفلة عنه، بل ينبغي معاودة السير فيه، وهو طرق الدعوة إلى الله.

ومن هنا رأى المؤلف أن واجب الدين والإسلام يحتم عليه التنبيه إلى العودة مرة أخرى إلى الطريق الأساس الذي عنه تنبثق بقية السبل، أو لمصلحته يجب أن تتوجه الجهود، ولا ينبغي أن يكون التوجه لطريق آخر مؤثراً على طريق الدعوة إلى الله.

قدم المؤلف في هذا الكتاب أهم معالم طريق الربانية، وأولها العودة إلى كتاب الله تعالى، قراءة، وتدبراً، وتعلماً، وتعليماً، واتخذ من آيات سورة الفاتحة مثالاً تطبيقاً للتدبر المطلوب لكتاب الله سبحانه؛ وذلك أن أول وأهم ما يحتاج إليه أهل الإيمان والقرآن هو النظر والتدبر في آيات سورة الفاتحة.

وأوضح أن قضية العلم والتعلم والتعليم والتدبر لكتاب الله وآياته المبصرة، توضح الطريق، وتنير لأعين القلوب معالمه، وتخرج بأهل الإيمان من التيه الذي يحيون فيه، بعد أن ساروا في غير طريق الدعوة، حتى فقدت الدعوة مواقع كثيرة، وفقدت مصداقيتها في صورة الدعاة إلى الله تعالى، واهتزت صورة الإسلام والمسلمين؛ فكان لزاماً التنبيه والعودة إلى طريق الدعوة مرة أخرى.

إن أي عمل يقوم به المسلم لا بد أن يكون له تلك الأسس الصلبة، التي هي: الربانية والتزكية، التي بدايتها التدارس والتدريس، والتعلم والتعليم، والتفهيم، الذي يؤدي إلى التدبر في كلام الله، والاستشفاء بأدوية القرآن الكريم من العلل التي أصابتنا؛ ليستنير لنا الطريق مرة أخرى، ولتتضح المعالم، وليبدأ المؤمنون مرة أخرى في تحقيق أسباب النصر والتمكين.

قسم المؤلف كتابه إلى فصلين رئيسين:

الفصل الأول جعله تحت عنوان: طريق الربانية: بين المؤلف في هذا الفصل ملامح طريق الربانية؛ وذلك انطلاقاً من قوله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} (آل عمران:79) وقد بين المؤلف أن التحقق بصفة الربانية إنما يكون بالحياة بروح القرآن، واستدل لذلك ببعض الآيات التي تدل على أن القرآن الكريم هو الروح الحقيقة التي يحيا به المؤمن، من تلك الآيات قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} (الإسراء:85) وقوله عز وجل: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى:52) فالقرآن الكريم هو روح هذه الأمة، وحياة أفرادها فرداً فرداً، وكلما حلَّ فيه من هذه الروح حلَّ فيه من ذلك النور، وهذا النور هو الأساس الذي عليه تنتشر بركة القرآن في الدنيا، وترتفع رايته، وهو كذلك سبب النجاة في الآخرة، فعل قدر ما أخذوا من هذا الروح، وعلى قدر ما وصلهم من ذلك النور، على قدر ما يعبرون الصراط يوم القيامة.

والوصول إلى طريق الربانية لا يكون -بحسب المؤلف- إلا بالتحقق بثلاثة أمور:

أولها: التحقق بأوصاف القرآن الكريم: وسبيل ذلك هو تعلم كتاب الله وتعليمه ومدارسته، والتزكية التي هي مقصود العلم والتعلم، وطريق التزكية هو طريق العلم والعلم، والعلم الأول هو كتاب الله تعالى تعليماً وتعلماً ودراسة، ويكون ذلك عن طريق تعلم الكتاب وتدريسه ومدارسته.

وبالنظر الى الحال الذي آل إليه أمر المسلمين من التخبط والحيرة، والتيه والظلمة، وعدم التمكن من النظر والسير الصحيح إلى الله؛ فإن المؤلف يُرْجِع أمر ذلك إلى ضعف (الروح) في المسلمين، الذي هو ضعف القرآن، وهو السبب الأول فيما آل إليه أمر المسلمين.

وأشار المؤلف في هذا الفصل إلى أمر ذي بال، يتعلق ببركات تدبر القرآن الكريم، وقرر في هذا الشأن أمرين:

الأول: أن القرآن هو سبيل رجوع البركة، فأينما وجد هذا القرآن فثم البركة، وأينما فُقد فلا بركة.

الثاني: أن التدبر هو طريق التعلم والتزكية؛ وأن التدبر لكتاب الله من أهم القضايا الموصلة لتحقيق التعلم والعلم، والعمل والتزكية في طريق الربانية؛ وذلك لأن التدبر ينبني عليه التذكر، والتذكر طريق للإبصار ووضوح الطريق، والسير إلى الله.

وبخصوص مفهوم (التدبر) يشير المؤلف إلى أن ثمة فرقاً بين التدبر والتفسير؛ فإذا كان التفسير له قواعده وأصوله وعلومه ومشايخه وعلماؤه، فإن التدبر شيء زائد على التفسير، ويتطلب فقط معرفة المرء التفسير البسيط لمعاني الآيات حتى لا يخرج ولا يشط عن المراد من الآيات. والتدبر يعين النظر في مآلات الآيات وعواقبها، سواء فيما يتعلق بالنفس، أو فيما يتعلق بالمجتمع.

ومآل التدبر -بحسب المؤلف- هو التذكر؛ فالتذكر هو ثمرة التدبر، وبداية الطريق هي مجالس القرآن، فهي طريق التدبر.

وثاني الطرق الموصلة إلى الربانية هو المرابطة في المسجد، وهنا يؤكد المؤلف على أهمية المسجد في حياة المسلم، وأنه لابد للعودة إلى المسجد، والمرابطة فيه، والتعلق به، ومن ثم الانطلاق منه في مناحي الحياة كافة. والمسلم لا يمكن أن يتصف بصفة الربانية إلا إذا تربي بين سواري المسجد، وتلقى الأدب والعلم من علمائه المرابطين فيه. فإذا ما تحقق المسلمون بذلك علموا أن المسجد هو بداية رباطهم؛ لتحقيق هذه الربانية تعلماً وعلماً ومدارسة وتزكية، وأن طريق الربانية بعد مدارسة القرآن هو المرابطة في بيت الله، فما لم يتحقق ذلك الرباط على كتاب الله وعلى سنة نبيه تعلماً وعلماً وتدارساً وتأسياً لا يصل أحد إلى مرحلة الربانية، ومن ثم مرحلة التزكية.

وثالث الطرق الموصلة إلى الربانية هو الانتقال من الصلاح إلى الإصلاح، يبين المؤلف هنا أن المسلمين إذا أصلحوا من أنفسهم من خلال العمل بكتاب الله، والتأسي بسنة نبيه صلى عليه وسلم، فإنهم بذلك يكونون قد أصلحوا من أنفسهم، ومن ثم ينتقلون في مرحلة تالية إلى إصلاح غيرهم عن طريق الدعوة، التي أمروا بالقيام بها؛ إذ الدعوة لا يمكن أن تأتي ثمارها المرجوة إلا بعد إصلاح النفس أولاً، وإصلاح الغير لا يكون، ولا يمكن إلا بصلاح النفس أولاً.

ونبه المؤلف بخصوص مسألة الإصلاح إلى أهمية تمتع الدعاة بصفة الحلم، وسعة الصدر، والتريث والأناة؛ كي تؤتي دعوتهم ثمارها، وإلا فإن الشدة وضيق الصدر والعجلة تأتي بنتائج سلبية، وأمور غير مرضية.

القسم الثاني من الكتاب هو بمثابة قسم تطبيقي؛ وذلك أنه لما كان هدف المؤلف الرئيس من كتابه بيان الطريق الموصل إلى التحقق بصفة الربانية، والتحقق بهذه الصفة طريقه التدبر، ومن ثم جعل القسم الثاني يعالج هذا الجانب، واتخذ من صورة الفاتحة مثالاً تطبيقيًّا لما ابتغى الوصول إليه.

واختيار المؤلف لسورة الفاتحة كمثال لموضوع التدبر مرده إلى أن هذه السورة تحتوي على مقاصد القرآن الكريم الثلاثة، وهي: الثناء على الله تعالى بجميع المحامد، وتنزيهه عن جميع النقائص. والأمر والنهي، والوعد والوعيد. كما أن هذه السورة حوت أصول الدين، وهي: إثبات الربوبية، وإثبات البعث، وإثبات النبوات، وإرسال الرسل.

ابتدأ المؤلف هذا الفصل ببيان المعاني الإجمالية لآيات الفاتحة، ثم شرع في تدبر آيات الفاتحة، ليقرر أخيراً أن آيات سورة الفاتحة -كما هي آيات القرآن كلها- إنما هي بصائر واضحة ونيرة، تأخذ بأيدي المؤمنين في طريقهم إلى الله تعالى، تزكية لأنفسهم، وإيضاحاً لسيرهم، وتنويراً لطريقهم، كما قال تعالى: {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها} (الأنعام:104).

عنوان الكتاب (العودة إلى الربانية: نظرات في فاتحة الكتاب) د.محمد الدبيسي، صدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة (1435هـ-2014م) وحوى من الصفحات أربعاً وثمانين ومائة صفحة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة