الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم .

( قال الشيخ ) الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله ونور ضريحه وهو في الحبس بأوزجند إملاء : ( الحمد ) لله بارئ النسم ، ومحيي الرمم ومجزل القسم ، مبدع البدائع ، وشارع الشرائع دينا رضيا ، ونورا مضيا ، لتكليف المحجوجين ، ووعد المؤتمرين ، ووأد المعتدين ، بينة للعالمين ، على لسان سيد المرسلين ، وإمام المتقين خاتم النبيين ، سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين - . ( وبعد ) : فإن أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله - تعالى - طلب العلم كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة } والعلم ميراث النبوة كما جاء في الحديث { أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر } .

والعلم علمان : علم التوحيد والصفات وعلم الفقه والشرائع .

فالأصل في علم التوحيد التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة كما كان عليه الصحابة والتابعون والسلف الصالحون - رضوان الله عليهم أجمعين - الذين أخفاهم التراب ، وآثارهم بتصانيفهم باقية في هذا الباب ، وقد عزمت على جمع أقاويلهم في تأليف هذا الكتاب تذكرة لأولي الألباب .

وأما علم الفقه والشرائع فهو الخير الكثير كما قال الله - عز وجل - : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه الحكمة معرفة الأحكام من الحلال والحرام وقد ندب الله - تعالى - إلى ذلك بقوله - تعالى - : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فقد جعل ولاية الإنذار والدعوة للفقهاء ، وهذه درجة الأنبياء ، تركوها ميراثا للعلماء ، كما قال عليه الصلاة والسلام : { العلماء ورثة الأنبياء } ، وبعد انقطاع النبوة هذه الدرجة أعلى النهاية في القوة ، وهو معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام : { من يرد الله به خيرا يفقهه [ ص: 3 ] في الدين } وقال عليه الصلاة والسلام : { خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا } ولهذا اشتغل به أعلام الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم .

( وأول ) من فرع فيه وألف وصنف سراج الأمة أبو حنيفة - رحمة الله عليه - بتوفيق من الله - عز وجل - خصه به ، واتفاق من أصحاب اجتمعوا له كأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم بن خنيس الأنصاري رحمه الله تعالى المقدم في علم الأخبار ، والحسن بن زيادة اللؤلؤي المقدم في السؤال والتفريع ، وزفر بن الهذيل رحمه الله بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذؤيب بن جذيمة بن عمرو المقدم في القياس ، ومحمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى المقدم في الفطنة وعلم الإعراب والنحو والحساب . هذا مع أنه ولد في عهد الصحابة رضوان الله عليهم ولقي منهم جماعة كأنس بن مالك وعامر بن الطفيل وعبد الله بن خبر الزبيدي رضوان الله عليهم أجمعين ونشأ في زمن التابعين رحمهم الله وتفقه وأفتى معهم وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : { خير القرون قرني الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد ويحلف قبل أن يستحلف } . فمن فرع ودون العلم في زمن شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بالخير والصدق كان مصيبا مقدما ، كيف وقد أقر له الخصوم بذلك ؟ حتى قال الشافعي رضي الله عنه : " الناس كلهم عيال على أبي حنيفة رحمه الله في الفقه " .

( وبلغ ) ابن سريج رحمه الله وكان مقدما من أصحاب الشافعي رحمه الله أن رجلا يقع في أبي حنيفة رحمه الله فدعاه وقال : يا هذا أتقع في رجل سلم له جميع الأمة ثلاثة أرباع العلم وهو لا يسلم لهم الربع . قال : وكيف ذلك ؟ قال : الفقه سؤال وجواب وهو الذي تفرد بوضع الأسئلة فسلم له نصف العلم ثم أجاب عن الكل ، وخصومه لا يقولون إنه أخطأ في الكل فإذا جعلت ما وافقوه مقابلا بما خالفوه فيه سلم له ثلاثة أرباع العلم وبقي الربع بينه وبين سائر الناس . فتاب الرجل عن مقالته .

( ومن ) فرغ نفسه لتصنيف ما فرعه أبو حنيفة رحمه الله محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله فإنه جمع المبسوط لترغيب المتعلمين والتيسير عليهم ببسط الألفاظ وتكرار المسائل في الكتب ليحفظوها شاءوا أو أبوا إلى أن رأى الحاكم الشهيد أبو الفضل محمد بن أحمد المروزي رحمه الله إعراضا من بعض المتعلمين عن قراءة المبسوط لبسط في الألفاظ وتكرار في المسائل فرأى الصواب في تأليف المختصر بذكر معاني كتب محمد بن الحسن رحمه الله المبسوطة فيه وحذف المكرر من مسائله ترغيبا للمقتبسين ونعم ما صنع .

[ ص: 4 ] قال الشيخ الإمام ) رحمه الله تعالى ثم إني رأيت في زماني بعض الإعراض عن الفقه من الطالبين لأسباب : فمنها قصور الهمم لبعضهم حتى اكتفوا بالخلافيات من المسائل الطوال ، ومنها ترك النصيحة من بعض المدرسين بالتطويل عليهم بالنكات الطردية التي لا فقه تحتها ، ومنها تطويل بعض المتكلمين بذكر ألفاظ الفلاسفة في شرح معاني الفقه وخلط حدود كلامهم بها . ( فرأيت ) الصواب في تأليف شرح المختصر لا أزيد على المعنى المؤثر في بيان كل مسألة اكتفاء بما هو المعتمد في كل باب ، وقد انضم إلى ذلك سؤال بعض الخواص من زمن حبسي ، حين ساعدوني لأنسي ، أن أملي عليهم ذلك فأجبتهم إليه . ( وأسأل ) الله - تعالى - التوفيق للصواب ، والعصمة عن الخطأ وما يوجب العقاب ، وأن يجعل ما نويت فيما أمليت سببا لخلاصي في الدنيا ونجاتي في الآخرة إنه قريب مجيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية