الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 53 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، وجعل أمتنا - ولله الحمد - خير أمة ، وبعث فينا رسولا منا يتلو علينا آياته ، ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة . أحمده على نعمه الجمة ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله للعالمين رحمة ، وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا ، فأوضح لنا كل الأمور المهمة ، وخصه بجوامع الكلم ، فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة ، أو شطر كلمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، صلاة تكون لنا نورا من كل ظلمة ، وسلم تسليما كثيرا . أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم ، وخصه ببدائع الحكم . كما في " الصحيحين " ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بجوامع الكلم قال الزهري : جوامع الكلم - فيما بلغنا - أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ، ونحو ذلك . [ ص: 54 ] خرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عمرو بن العاص ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع ، فقال : " أنا محمد النبي الأمي " . قال ذلك ثلاث مرات . " ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " ، وذكر الحديث . وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إنى أوتيت جوامع الكلم وخواتمه ، واختصر لي اختصارا " . وخرج الدارقطني من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت جوامع الكلم ، واختصر لي الحديث اختصارا . وروينا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق القرشي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه " فقلنا : يا رسول الله ، علمنا مما علمك الله عز وجل ، قال : فعلمنا التشهد . [ ص: 55 ] ‌ وفي " صحيح مسلم " ، عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ، عن البتع والمزر ، قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه ، فقال : أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة . وروى هشام بن عمار في كتاب " المبعث " بإسناده ، عن أبي سلام الحبشي ، قال : حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " فضلت على من قبلي بست ولا فخر " فذكر منها : قال : " وأعطيت جوامع الكلم ، وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءا بالليل إلى الصباح ، فجمعها لي ربي في آية واحدة سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( الحديد : 1 ) . فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : أحدهما : ما هو في القرآن ، كقوله عز وجل : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ( النحل : 90 ) قال الحسن : لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به ، ولا شرا إلا نهت عنه . والثاني : ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم ، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه [ ص: 56 ] صلى الله عليه وسلم . وقد جمع العلماء جموعا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة ، فصنف الحافظ أبو بكر بن السني كتابا سماه : " الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة " وجمع القاضي أبو عبد الله القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابا سماه : " الشهاب في الحكم والآداب " ، وصنف على منواله قوم آخرون ، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة . وأشار الخطابي في أول كتابه " غريب الحديث " إلى يسير من الأحاديث الجامعة . وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسا سماه " الأحاديث الكلية " جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال : إن مدار الدين عليها ، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة ، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا . ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا يحيى النووي رحمة الله عليه أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح ، وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثا ، وسمى كتابه " بالأربعين " ، واشتهرت هذه الأربعون التي جمعها ، وكثر حفظها ، ونفع الله بها ببركة نية جامعها ، وحسن قصده رحمه الله . وقد تكرر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث المشار إليها ، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع كتاب يتضمن شرح ما ييسره الله تعالى من معانيها ، وتقييد ما يفتح به سبحانه من تبيين قواعدها ومبانيها ، وإياه أسأل العون على ما قصدت ، والتوفيق لصلاح النية والقصد فيما أردت ، وأعول في أمري كله عليه ، وأبرأ من الحول والقوة إلا إليه . وقد كان بعض من شرح هذه الأربعين قد تعقب على جامعها رحمه الله تركه [ ص: 57 ] لحديث : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض ، فلأولى رجل ذكر قال : لأنه الجامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم ، فكان ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة ، كما ذكر حديث البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر لجمعه لأحكام القضاء . فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ رحمه الله ، وأن أضم إلى ذلك كله أحاديث أخر من جوامع الكلم الجامعة لأنواع العلوم والحكم ، حتى تكمل عدة الأحاديث كلها خمسين حديثا ، وهذه تسمية الأحاديث المزيدة على ما ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه : حديث : ألحقوا الفرائض بأهلها حديث : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب حديث : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه حديث : كل مسكر حرام حديث : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن حديث : أربع من كن فيه كان منافقا حديث : لو أنكم توكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير حديث : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل . وسميته : [ ص: 58 ] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم . واعلم أنه ليس غرضي إلا شرح الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث الكلية ، فلذلك لا أتقيد بكلام الشيخ رحمه الله في تراجم رواة هذه الأحاديث من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا بألفاظه في العزو إلى الكتب التي يعزو إليها ، وإنما آتي بالمعنى الذي يدل على ذلك ؛ لأني قد أعلمتك أنه ليس لي غرض إلا في شرح معاني كلمات النبي صلى الله عليه وسلم الجوامع ، وما يتضمنه من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع . وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده ؛ ليعلم بذلك صحته وقوته وضعفه ، وأذكر بعض ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ ، وإن لم يكن في الباب غيره ، أو لم يكن يصح فيه غيره ، نبهت على ذلك كله ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية