الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 23 ] بسم الله الرحمن الرحيم

        مقدمة المؤلف

        الحمد لله الذي جعل أسباب من انقطع إليه موصولة ، ورفع مقام الواقف ببابه ، وآتاه مناه وسؤله ، وأدرج في زمرة أحبابه من لم تكن نفسه بزخارف المبطلين معلولة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة برداء الإخلاص مشمولة ، وللملكوت الأعلى صاعدة مقبولة ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، الذي بلغ به من إكمال الدين مأموله ، وآتاه جوامع الكلم ، فنطق بجواهر الحكم ، وفاحت من حدائق أحاديثه في الخافقين شذا أزهارها المطلولة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ذوي الأصول الكريمة والأمجاد المأثولة .

        أما بعد : فإن علم الحديث رفيع القدر ، عظيم الفخر ، شريف الذكر ، لا يعتني به إلا كل حبر ، ولا يحرمه إلا كل غمر ، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر ، وكنت ممن عبر إلى لجة قاموسه ، حيث وقف غيري بشاطئه ، ولم أكتف بورود مجاريه ، حتى بقرت عن منبعه ومناشئه ، وقلت لمن على الراحة عول ، متمثلا بقول الأول :


        لسنا وإن كنا ذوي حسب يوما على الأحساب نتكل [ ص: 24 ]     نبني كما كانت أوائلنا
        تبني ونفعل مثل ما فعلوا

        مع ما أمدني الله تعالى به من العلوم ، كالتفسير الذي به يطلع على فهم الكتاب العزيز ، وعلومه التي دونتها ولم أسبق إلى تحريرها الوجيز ، والفقه الذي من جهله فأنى له الرفعة والتمييز ، واللغة التي عليها مدار فهم السنة والقرآن ، والنحو الذي يفتضح فاقده بكثرة الزلل ولا يصلح الحديث للحان ، إلى غير ذلك من علوم المعاني والبيان ، التي لبلاغة الكتاب والحديث تبيان ، وقد ألفت في كل ذلك مؤلفات ، وحررت فيها قواعد ومهمات ، ولم أكن كغيري ممن يدعي الحديث بغير علم ، وقصارى أمره كثرة السماع على كل شيخ وعجوز ، غير ملتفت إلى معرفة ما يحتاج المحدث إليه أن يحوز ، ولا مكترث بالبحث عما يمتنع أو يجوز ، ثم ظن الانفراد بجمع الكتب والضن بها على طلابها ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا عاريا عن الانتفاع بخطابها .

        إن سئل عن مسألة في المصطلح لم يهتد إلى جوابها ، أو عرضت له مسألة في دينه لم يعرف خطأها من صوابها ، أو لو تلفظ بكلمة من الحديث لم يأمن أن يزل في إعرابها ، فصار بذلك ضحكة للناظرين ، وهزأة للساخرين ، والله تعالى حسبي وهو خير الناصرين .

        هذا ، وقد طال ما قيدت في هذا الفن فوائد وزوائد ، وعلقت فيه نوادر وشوارد ، وكان يخطر ببالي جمعها في كتاب ، ونظمها في عقد لينتفع بها الطلاب ، فرأيت كتاب " التقريب والتيسير " لشيخ الإسلام الحافظ ، ولي [ ص: 25 ] الله تعالى أبي زكريا النواوي ، كتابا جل نفعه ، وعلا قدره ، وكثرت فوائده ، وغزرت للطالبين موائده ، وهو مع جلالته وجلالة صاحبه وتطاول هذه الأزمان من حين وضعه لم يتصد أحد إلى وضع شرح عليه ، ولا الإنابة إليه .

        فقلت لعل ذلك فضل ادخره الله تعالى لمن يشاء من العبيد ، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد ، فقوي العزم على كتابة شرح عليه كافل بإيضاح معانيه ، وتحرير ألفاظه ومبانيه ، مع ذكر ما بينه وبين أصله من التفاوت في زيادة أو نقص ، أو إيراد أو اعتراض ، مع الجواب عنه إن كان مضيفا إليه زوائد علية ، وفوائد جلية ، لا توجد مجموعة في غيره ، ولا سار أحد قبله كسيره ، فشرعت في ذلك مستعينا بالله تعالى ، ومتوكلا عليه ، وحبذا ذاك اتكالا ، وسميته : " تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي " ، وجعلته شرحا لهذا الكتاب خصوصا ، ثم لمختصر ابن الصلاح ولسائر كتب الفن عموما .

        والله تعالى أسأل أن يجعله خالصا لوجهه ، فهو بإجابة السائل أحرى ، وينفع به مؤلفه وقارئه في الدنيا والأخرى .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية