الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ المسألة الثالثة ]

[ مبيحات الجمع ]

وأما المسألة الثالثة ( وهي الأسباب المبيحة للجمع ) ، فاتفق القائلون بجواز الجمع على أن السفر منها ، واختلفوا في الجمع في الحضر وفي شروط السفر المبيح له ، وذلك أن السفر منهم من جعله سببا مبيحا للجمع أي سفر كان وبأي صفة كان ، ومنهم من اشترط فيه ضربا من السير ، ونوعا من أنواع السفر ، فأما الذي اشترط فيه ضربا من السير فهو مالك في رواية ابن القاسم عنه ، وذلك أنه قال : لا يجمع المسافر إلا أن يجد به السير ، ومنهم من لم يشترط ذلك وهو الشافعي ، وهي إحدى الروايتين عن مالك ، ومن ذهب هذا المذهب فإنما راعى قول ابن عمر : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير " الحديث .

ومن لم يذهب هذا المذهب فإنما راعى ظاهر حديث أنس وغيره ، وكذلك اختلفوا كما قلنا في نوع السفر الذي يجوز فيه الجمع .

فمنهم من قال : هو سفر القربة كالحج والغزو ، وهو ظاهر رواية ابن القاسم .

ومنهم من قال : هو السفر المباح دون سفر المعصية ، وهو قول الشافعي وظاهر رواية المدنيين عن مالك .

والسبب في اختلافهم في هذا هو السبب في اختلافهم في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، وإن كان هنالك التعميم ; لأن القصر نقل قولا وفعلا ، والجمع إنما نقل فعلا فقط ، فمن اقتصر به على نوع السفر الذي جمع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجزه في غيره ، ومن فهم منه الرخصة للمسافر عداه إلى غيره من الأسفار .

وأما الجمع في الحضر لغير عذر ، فإن مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه ، وأجاز ذلك جماعة من أهل [ ص: 147 ] الظاهر وأشهب من أصحاب مالك .

وسبب اختلافهم : اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس ، فمنهم من تأوله على أنه كان في مطر كما قال مالك . ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا . وقد خرج مسلم زيادة في حديثه ، وهو قوله " في غير خوف ولا سفر ولا مطر " وبهذا تمسك أهل الظاهر .

وأما الجمع في الحضر لعذر المطر ، فأجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ومنعه مالك في النهار ، وأجازه في الليل ، وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل ، وقد عذل الشافعي مالكا في تفريقه من صلاة النهار في ذلك وصلاة الليل لأنه روى الحديث وتأوله : ( أعني : خصص عمومه من جهة القياس ) وذلك أنه قال في قول ابن عباس : " جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر " أرى ذلك كان في مطر قال : فلم يأخذ بعموم الحديث ولا بتأويله : ( أعني تخصيصه ) بل رد بعضه وتأول بعضه ، وذلك شيء لا يجوز بإجماع ، وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه : " جمع بين الظهر والعصر " وأخذ بقوله : " والمغرب والعشاء " وتأوله وأحسب أن مالكا - رحمه الله - إنما رد بعض هذا الحديث ; لأنه عارضه العمل ، فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل ، وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما روي أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ، جمع معهم ، لكن النظر في هذا الأصل الذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا فيه نظر ، فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا يقولون إنه من باب الإجماع ، وذلك لا وجه له ، فإن إجماع البعض لا يحتج به ، وكان متأخروهم يقولون إنه من باب نقل التواتر ، ويحتجون في ذلك بالصاع وغيره مما نقله أهل المدينة خلفا عن سلف ، والعمل إنما هو فعل ، والفعل لا يفيد التواتر إلا أن يقترن بالقول فإن التواتر طريقة الخبر لا العمل ، وبأن جعل الأفعال تفيد التواتر عسير بل لعله ممنوع ، والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوى الذي يذهب إليه أبو حنيفة ، وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها ، وتكرر وقوع أسبابها غير منسوخة ، ويذهب العمل بها على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف ، وهو أقوى من عموم البلوى الذي يذهب إليه أبو حنيفة ; لأن أهل المدينة أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل ، وبالجملة العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء المنقول إن وافقته أفادت به غلبة ظن ، وإن خالفته أفادت به ضعف ظن ، فأما هل تبلغ هذه القرينة مبلغا ترد بها أخبار الآحاد الثابتة ففيه نظر ، وعسى أنها تبلغ في بعض ولا تبلغ في بعض لتفاضل الأشياء في شدة عموم البلوى بها ، وذلك أنه كلما كانت السنة الحاجة إليها أمس وهي كثيرة التكرار على المكلفين كان نقلها من طريق الآحاد من غير أن ينتشر قولا أو عملا فيه ضعف ، وذلك أنه يوجب ذلك أحد أمرين : إما أنها منسوخة ، وإما أن النقل فيه اختلال ، وقد بين ذلك المتكلمون كأبي المعالي وغيره . وأما الجمع في الحضر للمريض فإن مالكا أباحه له إذا خاف أن يغمى عليه أو كان به بطن ومنع ذلك الشافعي .

والسبب في اختلافهم : هو اختلافهم في تعدي علة الجمع في السفر : ( أعني : المشقة ) ، فمن طرد العلة [ ص: 148 ] رأى أن هذا من باب الأولى والأحرى ، وذلك أن المشقة على المريض في إفراد الصلوات أشد منها على المسافر ، ومن لم يعد هذه العلة وجعلها كما يقولون قاصرة : ( أي : خاصة بذلك الحكم دون غيره ) لم يجز ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية