الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في التهجد وما ورد في فضله .

( وخذ ) أيها الأخ الصادق ، والخل الموافق ( بنصيب ) وافر ، وسهم صالح غير قاصر ( في الدجى ) أي في الظلام . قال في القاموس : دجا الليل دجوا ودجوا أظلم كأدجى وتدجى وادجوجى ، وليلة داجية ، ودياجي الليل حنادسه كأنها جمع ديجاة انتهى ( من تهجد ) لقوله تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } يقال : هجد وتهجد أي نام وسهر فهو من الأضداد يطلق على النوم وضده ، ولا يخفى أن مراد الناظم روح الله روحه الأخذ بنصيب من صلاة الليل ، والمتهجد المصلي بالليل . قال علماؤنا : التهجد لا يكون إلا بعد النوم . والناشئة لا تكون إلا بعد رقدة ، وصلاة الليل أعم من ذلك ، فهي ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ، وهي سنة مرغب فيها ، وأفضل من صلاة النهار ، قد وردت بها الأخبار ، وتظافرت بالحث عليها الآثار وأفضل الليل نصفه الأخير ، وأفضله ثلثه الأول ، وهذا معنى قولهم أفضل الليل الثلث بعد النصف كما هو نص الإمام رضي الله عنه .

وقد روى مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } .

وروى الإمام أحمد ، والطبراني بإسناد حسن ، والحاكم ، وقال صحيح على شرطهما عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، فقال أبو مالك الأشعري : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وبات قائما والناس نيام } [ ص: 497 ] وفي حديث عبد الله بن سلام عند الترمذي وصححه وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين أنه أول ما سمع من كلامه صلى الله عليه وسلم أن قال : { أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام } ، .

وفي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، ويصوم يوما ويفطر يوما } .

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين من قبلكم ، وقربة إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة عن الإثم } رواه الترمذي في كتاب الدعاء من جامعه وابن أبي الدنيا في التهجد وابن خزيمة في صحيحه والحاكم كلهم من رواية عبد الله بن صالح كاتب الليث ، وقال الحاكم : على شرط البخاري . قلت : وكاتب الليث مختلف فيه ، كان ابن معين يوثقه . وقال النسائي ليس بثقة . وقال أبو حاتم : سمعت ابن معين يقول : أقل أحواله أن يكون قرأ هذه الكتب على الليث وأجازها له . قال : وسمعت أحمد بن حنبل يقول : كان أول أمره متماسكا ثم فسد بآخره . وقال عبد الملك بن شعيب : ثقة مأمون . وقال أبو حاتم : صدوق أمين ما علمت ، وقال ابن عدي : هو عندي مستقيم الحديث إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يعتمد ، وقد روى عنه البخاري في صحيحه ، والله أعلم .

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، ومقربة لكم إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة عن الإثم ، ومطردة للداء عن الجسد } رواه الطبراني في الكبير ، والترمذي في الدعوات من جامعه .

ففي هذا الحديث أن قيام الليل يوجب صحة الجسد ويطرد عنه الداء .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : فضل صلاة الليل على صلاة النهار [ ص: 498 ] كفضل صدقة السر على صدقة العلانية . رواه الطبراني عنه مرفوعا . قال الحافظ ابن رجب : والمحفوظ وقفه .

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه : ركعة بالليل خير من عشر ركعات بالنهار أخرجه ابن أبي الدنيا .

وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار ; لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص . وقد كان السلف الصالح يجتهدون على إخفاء أسرارهم .

قال الحسن : كان الرجل تكون عنده زواره فيقوم من الليل فيصلي لا يعلم به زواره . وكانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت . وكان الرجل ينام مع امرأته على وسادة فيبكي طول ليله وهي لا تشعر ; ولأن صلاة الليل أشق على النفوس ، فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار . فترك النوم مع ميل النفس إليه مجاهدة عظيمة .

قال بعضهم : أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس . ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر لقطع الشواغل عن القلب بالليل فيحضر القلب ويتواطأ هو واللسان على الفهم كما قال تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } ولهذا المعنى أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلا .

ولهذا كانت صلاة الليل منهاة عن الإثم كما مر في حديث الترمذي وغيره .

وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له إن فلانا يصلي من الليل فإذا أصبح سرق ، فقال ستنهاه صلاته وما يقول } ولأن وقت التهجد من الليل أفضل أوقات التطوع بالصلاة وأقرب ما يكون العبد من ربه ، وهو وقت فتح أبواب السماء واستجابة الدعاء واستعراض حوائج السائلين .

التالي السابق


الخدمات العلمية