الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم كتاب التوحيد

                                                                                                                                                                                                        باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى

                                                                                                                                                                                                        6937 حدثنا أبو عاصم حدثنا زكرياء بن إسحاق عن يحيى بن محمد بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن [ ص: 357 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 357 ] قوله ( بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب التوحيد ) كذا للنسفي وحماد بن شاكر ، وعليه اقتصر الأكثر عن الفربري ، وزاد المستملي : الرد على الجهمية وغيرهم ، وسقطت البسملة لغير أبي ذر ، ووقع لابن بطال وابن التين " كتاب رد الجهمية " وغيرهم " التوحيد " وضبطوا التوحيد بالنصب على المفعولية ، وظاهره معترض ؛ لأن الجهمية وغيرهم من المبتدعة لم يردوا التوحيد وإنما اختلفوا في تفسيره ، وحجج الباب ظاهرة في ذلك ، والمراد بقوله في رواية المستملي وغيرهم : القدرية ، وأما الخوارج فتقدم ما يتعلق بهم في " كتاب الفتن " وكذا الرافضة تقدم ما يتعلق بهم في " كتاب الأحكام " وهؤلاء الفرق الأربع هم رءوس البدعة وقد سمى المعتزلة أنفسهم " أهل العدل والتوحيد " وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية ، لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه ومن شبه الله بخلقه أشرك ، وهم في النفي موافقون للجهمية ، وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل ، ومن ثم قال الجنيد فيما حكاه أبو القاسم القشيري : التوحيد إفراد القديم من المحدث " وقال أبو القاسم التميمي في " كتاب الحجة " : التوحيد مصدر وحد يوحد ، ومعنى وحدت الله اعتقدته منفردا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه ، وقيل معنى وحدته علمته واحدا ، وقيل : سلبت عنه الكيفية والكمية فهو واحد في ذاته لا انقسام له ، وفي صفاته لا شبيه له ، في إلهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ولا رب سواه ولا خالق غيره . وقال ابن بطال : تضمنت ترجمة الباب أن الله ليس بجسم ؛ لأن الجسم مركب من أشياء مؤلفة وذلك يرد على الجهمية في زعمهم أنه جسم ، كذا وجدت فيه ولعله أراد أن يقول المشبهة ، وأما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنف في المقالات أنهم ينفون الصفات حتى نسبوا إلى التعطيل ، وثبت عن أبي حنيفة أنه قال : بالغ جهم في نفي التشبيه حتى قال : إن الله ليس بشيء ، وقال الكرماني الجهمية فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جهم بن صفوان مقدم الطائفة القائلة أن لا قدرة للعبد أصلا ، وهم الجبرية بفتح الجيم وسكون الموحدة ، ومات مقتولا في زمن هشام بن عبد الملك انتهى . وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة ، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات . حتى قالوا : إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق ، وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه " الفرق بين الفرق " أن رءوس المبتدعة أربعة إلى أن قال : والجهمية أتباع جهم بن صفوان الذي قال : بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال ، وقال لا فعل لأحد غير الله تعالى ، وإنما ينسب الفعل إلى العبد مجازا من غير أن يكون فاعلا أو مستطيعا لشيء ، وزعم أن علم الله حادث ، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد ، حتى قال لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره ، قال وأصفه بأنه خالق ومحيي [ ص: 358 ] ومميت وموحد بفتح المهملة الثقيلة ؛ لأن هذه الأوصاف خاصة به ، وزعم أن كلام الله حادث ، ولم يسم الله متكلما به ، قال : وكان جهم يحمل السلاح ويقاتل ، وخرج مع الحارث بن سريج ، وهو بمهملة وجيم مصغر ، لما قام على نصر بن سيار عامل بني أمية بخراسان فآل أمره إلى أن قتله سلم بن أحوز وهو بفتح السين المهملة وسكون اللام ، وأبوه بمهملة وآخره زاي وزن أعور وكان صاحب شرطة نصر ، وقال البخاري في " كتاب خلق أفعال العباد : بلغني أن جهما كان يأخذ عن الجعد بن درهم ، وكان خالد القسري وهو أمير العراق خطب فقال : إني مضح بالجعد بن درهم ؛ لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما . قلت : وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك ، فكأن الكرماني انتقل ذهنه من الجعد إلى الجهم فإن قتل جهم كان بعد ذلك بمدة ، ونقل البخاري عن محمد بن مقاتل قال : قال عبد الله بن المبارك :

                                                                                                                                                                                                        ولا أقل بقول الجهم إن له قولا يضارع قول الشرك أحيانا



                                                                                                                                                                                                        وعن ابن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي قول جهم ، وعن عبد الله بن شوذب قال : ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك ، وأخرج ابن أبي حاتم في " كتاب الرد على الجهمية " من طريق خلف بن سليمان البلخي قال : كان جهم من أهل الكوفة وكان فصيحا ، ولم يكن له نفاذ في العلم ، فلقيه قوم من الزنادقة فقالوا له : صف لنا ربك الذي تعبده ، فدخل البيت لا يخرج مدة ثم خرج فقال هو هذا الهواء مع كل شيء . وأخرج ابن خزيمة في التوحيد ، ومن طريقه البيهقي في الأسماء قال : سمعت أبا قدامة يقول : سمعت أبا معاذ البلخي يقول : كان جهم على معبر ترمذ ، وكان كوفي الأصل فصيحا ولم يكن له علم ولا مجالسة أهل العلم ، فقيل له صف لنا ربك فدخل البيت لا يخرج كذا ، ثم خرج بعد أيام فقال : هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء . وأخرج البخاري من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال : كلام جهم صفة بلا معنى ، وبناء بلا أساس ولم يعد قط في أهل العلم ، وقد سئل عن رجل طلق قبل الدخول فقال تعتد امرأته ، وأورد آثارا كثيرة عن السلف في تكفير جهم . وذكر الطبري في تاريخه في حوادث سنة سبع وعشرين أن الحارث بن سريج خرج على نصر بن سيار عامل خراسان لبني أمية وحاربه ، والحارث حينئذ يدعو إلى العمل بالكتاب والسنة وكان جهم حينئذ كاتبه ثم تراسلا في الصلح وتراضيا بحكم مقاتل بن حيان والجهم ، فاتفقا على أن الأمر يكون شورى حتى يتراضى أهل خراسان على أمير يحكم بينهم بالعدل ، فلم يقبل نصر ذلك واستمر على محاربة الحارث إلى أن قتل الحارث في سنة ثمان وعشرين في خلافة مروان الحمار ، فيقال : إن الجهم قتل في المعركة ويقال بل أسر ، فأمر نصر بن سيار سلم بن أحوز بقتله فادعى جهم الأمان ، فقال له سلم : لو كنت في بطني لشققته حتى أقتلك فقتله ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال : قال سلم حين أخذه : يا جهم إني لست أقتلك ؛ لأنك قاتلتني ، أنت عندي أحقر من ذلك ؛ ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهدا أن لا أملكك إلا قتلتك فقتله ، ومن طريق معتمر بن سليمان عن خلاد الطفاوي بلغ سلم بن أحوز وكان على شرطة خراسان أن جهم بن صفوان ينكر أن الله كلم موسى تكليما فقتله ، ومن طريق بكير بن معروف قال رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم فاسود وجه جهم ، وأسند أبو القاسم اللالكائي في " كتاب السنة " له أن قتل جهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان في سنة ثمان وعشرين ، وذكر ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أن قصة جهم كانت سنة ثلاثين ومائة ، وهذا يمكن حمله على جبر الكسر ، أو على أن قتل جهم تراخى عن قتل الحارث بن سريج ، وأما قول الكرماني : إن قتل جهم كان في خلافة هشام بن عبد الملك فوهم ؛ لأن خروج الحارث بن سريج الذي كان جهم كاتبه كان بعد [ ص: 359 ] ذلك ، ولعل مستند الكرماني ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد بن حنبل قال : قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان : أما بعد فقد نجم قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون قتله وقع في زمن هشام ، وإن كان ظهور مقالته وقع قبل ذلك حتى كاتب فيه هشام والله أعلم . وقال ابن حزم في " كتاب الملل والنحل " : فرق المقرين بملة الإسلام خمس : أهل السنة ، ثم المعتزلة ومنهم القدرية ، ثم المرجئة ومنهم الجهمية والكرامية ثم الرافضة ومنهم الشيعة ، ثم الخوارج ومنهم الأزارقة والإباضية ، ثم افترقوا فرقا كثيرة ، فأكثر افتراق أهل السنة في الفروع ، وأما في الاعتقاد ففي نبذ يسيرة ، وأما الباقون ففي مقالاتهم ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد والقريب ، فأقرب فرق المرجئة من قال : الإيمان التصديق بالقلب واللسان فقط وليست العبادة من الإيمان . وأبعدهم الجهمية القائلون بأن الإيمان عقد بالقلب فقط وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه ، وعبد الوثن من غير تقية ، والكرامية : القائلون بأن الإيمان قول باللسان فقط وإن اعتقد الكفر بقلبه ، وساق الكلام على بقية الفرق ثم قال : فأما المرجئة فعمدتهم الكلام في الإيمان والكفر ، فمن قال إن العبادة من الإيمان ، وإنه يزيد وينقص ولا يكفر مؤمنا بذنب ، ولا يقول إنه يخلد في النار فليس مرجئا ، ولو وافقهم في بقية مقالاتهم . وأما المعتزلة فعمدتهم الكلام في الوعد والوعيد والقدر ، فمن قال القرآن ليس بمخلوق وأثبت القدر ورؤية الله تعالى في القيامة ، وأثبت صفاته الواردة في الكتاب والسنة وأن صاحب الكبائر لا يخرج بذلك عن الإيمان فليس بمعتزلي وإن وافقهم في سائر مقالاتهم وساق بقية ذلك إلى أن قال : وأما الكلام فيما يوصف الله به فمشترك بين الفرق الخمسة ، من مثبت لها وناف ، فرأس النفاة المعتزلة والجهمية فقد بالغوا في ذلك حتى كادوا يعطلون ، ورأس المثبتة مقاتل بن سليمان ومن تبعه من الرافضة والكرامية ، فإنهم بالغوا في ذلك حتى شبهوا الله تعالى بخلقه ، تعالى الله سبحانه عن أقوالهم علوا كبيرا ، ونظير هذا التباين قول الجهمية : إن العبد لا قدرة له أصلا ، وقول القدرية إنه يخلق فعل نفسه . قلت : وقد أفرد البخاري خلق أفعال العباد في تصنيف ، وذكر منه هنا أشياء بعد فراغه مما يتعلق بالجهمية

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 360 ] قوله ( باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تعالى ) المراد بتوحيد الله تعالى الشهادة بأنه إله واحد وهذا الذي يسميه بعض غلاة الصوفية توحيد العامة ، وقد ادعى طائفتان في تفسير التوحيد أمرين اخترعوهما ، أحدهما : تفسير المعتزلة كما تقدم ، ثانيهما : غلاة الصوفية فإن أكابرهم لما تكلموا في مسألة المحو والفناء وكان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم وتفويض الأمر ، بالغ بعضهم حتى ضاهى المرجئة في نفي نسبة الفعل إلى العبد ، وجر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة ، ثم غلا بعضهم فعذر الكفار ، ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود ، وعظم الخطب حتى ساء ظن كثير من أهل العلم بمتقدميهم وحاشاهم من ذلك ، وقد قدمت كلام شيخ الطائفة الجنيد وهو في غاية الحسن والإيجاز ، وقد رد عليه بعض من قال بالوحدة المطلقة فقال : وهل من غير ، ولهم في ذلك كلام طويل ينبو عنه سمع كل من كان على فطرة الإسلام والله المستعان . وذكر في الباب أربعة أحاديث :

                                                                                                                                                                                                        الحديث الأول : حديث معاذ بن جبل في بعثه إلى اليمن ، أورده من طريقين الأولى أعلى من الثانية ، وقد أورد الطريق العالية في ( كتاب الزكاة ) وساقها هناك على لفظ أبي عاصم راويها ، وذكره هناك من وجه آخر بنزول ، وعبد الله بن أبي الأسود شيخه في هذا الباب هو ابن محمد بن أبي الأسود ينسب إلى جده واسمه حميد بن الأسود ، و " الفضل بن العلاء " يكنى أبا العلاء ويقال أبو العباس وهو كوفي نزل البصرة وثقه علي ابن المديني ، وقال أبو حاتم الرازي شيخ يكتب حديثه ، وقال النسائي ليس به بأس ، وقال الدارقطني : كثير الوهم . قلت : وما له في البخاري سوى هذا الموضع وقد قرنه بغيره ولكنه ساق المتن هنا على لفظه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن أبي معبد ) كذا للجميع بفتح الميم وسكون المهملة ثم موحدة ، وفي بعض النسخ عن أبي سعيد وهو تصحيف ، وكأن الميم انفتحت فصارت تشبه السين .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية